في جُمادى الآخرة عَزَلَ الخليفةُ ولدَه أبا نَصْر محمدًا، عُدَّة الدُّنيا والدِّين عن ولاية العهد، واجتمع أربابُ الدَّولة في دار الوزير ابن مَهْدي، والقضاةُ والعلماءُ والأمراء، وأخرج الوزيرُ رقعةً بخطِّ ولي العهد إلى والده مضمونها: أَنَّه حين ولَّاه العهد لم يكن يعلم ما يجب عليه فيه ولا قدَّر ذلك، وأَنَّه سأل أباه إقالته وعَزْلَه، وأَنَّه لا يَصْلُح لذلك، وشهد عليه أبو منصور بن سعيد بن الرَّزَاز، وأبو نَصْر أحمد بن زهير العَدْلان بذلك، وأَنَّ الخليفة أقاله، وأنشأ محمد بن محمد القُمِّي [-وهذا هو محمد القُمِّي هو الذي ناب في الوزارة، وعُزل في أيام المستنصر بالله، ولقبه المكين-](١) كتابًا إلى البُلْدان بذلك ومضمونه: أما بعد، فإنَّ أمير المؤمنين كان قَلَّد ولده أبا نَصْر محمدًا ولايةَ العَهْد في المُسْلمين، ورشَّحه بعده لإمرة المؤمنين، وألقى عليه هذا القول الثقيل، ونَهَجَ له من مراشد الدِّين والدُّنْيا أوضحَ سبيل، مؤمِّلًا فيه الاستقلال بأعبائه، والإتيان بما يتبيَّن عن اضطلاعه وغَنَائه، والتخلُّق بأخلاقه التي هي من أخلاق الباري مُقْتَبَسَة، وعلى التَّقوى مُؤَسَّسة، فلما آن أوانُ رُشْده، وبلوغِ المبلغ الذي أَمَلَ فيه سَدَادَ رأيه وقَصْدِه، رأى من نَفْسه القُصور عن التزام شروطِ الخلافة، وما يجبُ عليه من الرَّحمة للأمة والرأفة، فأقرَّ بالعَجْز عن تأدية حَقِّ الأُمَّة في أمره، وأشْهَدَ عليه أَنَّه لا يَصْلُحُ لها فيما مضى ولا فيما بقي من عمره، وخَلَعَ نفسه فيما كان أميرُ المؤمنين فوّض إليه، واعتمد فيه عليه، ولم يَسَعِ الخليفةَ إلا استخارةُ الله تعالى في إقالته، وطلب رضاه في حَلِّ عُقْدة ولايته، فأسقط اسمَه من السِّكَك والمنابر، والأقلام والمحابر.
ولما خَلَعَه لم يَرَ أَنْ يعيِّنَ أحدًا ليلقى الله بذمَّةٍ بريئة من الآثام، غيرِ متعلِّقةٍ بوزْرٍ يخصُّ الخاصَّ ويعُمُّ العام، وقد وافق أميرَ المؤمنين عمرَ بنَ الخَطَّاب ﵁ حيث جَعَلَها شورى في السِّتَّة المذكورين من أعيان المهاجرين، ولما قال له عبد الله ابنه: ما يمنعك أن تعيِّن مَنْ تراه أهلًا؟ فقال: لا والله، لا أتحمَّلُها حَيًّا ومَيِّتًا. وذكر كلامًا طويلًا، وكَتَبَ نُسَخًا إلى الأطراف.