للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[السنة الخامسة عشرة وثلاث مئة]

فيها في صفر قدم علي بنُ عيسى بغدادَ، فتلقَّاه النَّاس من الأنبار، ودخل على المقتدر فقرَّبه وأدناه، وخاطَبَه بالجميل، وصرفه إلى منزله، وبعث إليه بكسوة فاخرةٍ، وفُرُش، ودوابّ، وعشرين أَلْف دينار، فلما كان من الغد خَلَع عليه خِلْعةَ الوزارة، فأنشد علي بن عيسى: [من البسيط]

ما النَّاسُ إلَّا مع الدُّنيا وصاحبِها … فكيف ما انقلبتْ يومًا به انقلبوا

يُعظِّمون أخا الدنيا فإن وثَبَتْ … يومًا عليه بما لا يَشتهي وَثَبوا

وفي ربيع الآخر خلَع المقتدرُ على مؤنس، وأمره بالخروج إلى الثُّغور؛ لأنَّ الروم وصلوا سُمَيسَاط، وأخذوا جميعَ ما كان فيها، وضربوا بالنَّاقوس في الجامع، وتجهَّز مؤنس للخروج، ولم يبْقَ إلَّا وداعُه للمقتدر، فجاءه خادمٌ من خواصِّ المقتدر فقال لمؤنس (١): إنَّ الخليفة قد حفر لك زُبْيَةً بدار الشَّجرة، وأمر أن تنفردَ إذا دخلتَ ممَّن معك، ويُمرَّ بك على الزُّبْيَة، وتُلقى فيها وتُدفَن، ويظهر أنَّك وقعتَ في سِرْداب فمتَّ، فامتنع من وداع المقتدر، وركب إلى مؤنس القوَّادُ والغلمان بأسرهم، ولم يبْقَ في باب الخليفة أحد، ولبسوا السلاحَ، وقال له أبو الهيجاء عبد الله بنُ حمدان: أيُّها الأستاذ، لا تخَفْ؛ فلنقاتلَنَّ بين يديك حتَّى تَنْبُتَ لك لِحْية.

فبعث إليه المقتدرُ رُقعةً بخطِّه مع نسيم الشرابي، يحلفُ له فيها بالأيمان المُغَلَّظة على بُطلان ما بلغه، ويُعرِّفه أنَّه سائر إليه الليلة ليحلفَ له مُشافهةً، فصرف مؤنس جميع مَن صار إليه من الجيش إلى دار الخليفة، ولزم أبو الهيجاء دار مؤنس ليلًا ونهارًا، وبعث المقتدر نصرًا الحاجب وخواصَّه، فأحضروا مؤنسًا إلى حضرته، فقبَّل الأرض، وقبَّل يدَي الخليفة وقدميه، فحلف له المقتدرُ أنَّه على صفاء نيَّةٍ له، وأنَّ ما نُقِل إليه ليس له أصل، وودَّعه مؤنس، وسار من بغداد في ربيع الآخر، وشيَّعه الأمير أبو العباس بن المقتدر، والوزيرُ، والخواصُّ، وتوجَّه إلى الثغور فأوقع بالروم، وقتل منهم مَقْتَلةً


(١) في (خ): فقال له مؤنس، وليس في (ف م ١) لاختصار نشير إليه قريبًا، وانظر المنتظم ١٣/ ٢٦١.