فيها عظُمت نوبة البساسيري، ما زال به القائم حتى أحضره الديوان واستحلفه على الطاعة وإخلاص النية، ثم إن الأتراك شغَبوا بسببه، وقالوا: إنه كان يأكل أرزاقنا ولا يوصلها إلينا، وحضروا في الديوان، وضجُّوا منه، ثم استأذنوا الوزير في نهب داره ودور أصحابه، فأطلق لهم ذلك، وقال: هذا قد بان فسادُه. وكاتب صاحبَ مصر، وخلع ما في عنقه من طاعة الخليفة، وأطلق لسانه فيه بالقبيح، وروجع الخليفةُ فيه، فقال: ليس إلا هلاكُه بعد أن سعى في هلاك الدولة، وكاتب أعداءها، فقصد الأتراكُ دارَه بالجانب الغربي بقرب الحريم الطاهري في درب صالح، فنهبوها وأحرقوها وأهدموا أبنيتَها، وقدم السلطان طُغْرُلْبَك ﵀ بغداد فهرب البساسيري إلى الرَّحبة، ولحق به خلقٌ كثير من الأتراك البغداديين، وكاتب صاحب مصر يذكر كونَه في طاعته، وأنَّه على عزم إقامة الدعوة له ببغداد، فأمدَّه بالأموال والرجال، وولاه الرحبة والرقة.
قال المصنف ﵀: وحدثني بعض أشياخنا أن أصحاب الخليفة لمَّا نهبوا دار البساسيري وهدموها وأحرقوها وكان بواسط، فخرج أهلُه منها ومعهنَّ زوجته كاشفات الوجوه، ناشرات الشعور، يُنادين بالويل والثبور، وأخذوا كاتبَه ابنَ عبيد النصراني فألقوه في مطمورة، وسُبيتْ نساؤه، فلمَّا بلغه ذلك قال:[من الطويل]
هُمُ هدَّموا داري وجرُّوا حليلتي … إلى سجنهِمْ والمسلمونَ شهودُ
فكان كما قال، وسار على الفرات، فنهب الأنبار وهِيت، وصار إلى الرَّحبة، وبعث إلى صاحب مصر يطلب منه شفاعةً إلى القائم، فكتب: نَشْفَع فيه، فكتب القائم على رأس الكتاب بخطِّه: من أنتم؟ من أنتم؟ خبِّرونا من أنتم؟ فحنق صاحبُ مصر، وقوَّى البساسيري بالمال والرجال، حتى أخرج القائم من بغداد، وجرى ما جرى، وكل ذلك مضاف إلى سوء تدبير رئيس الرؤساء.