كتاب مرآة الزمان في تواريخ الأعيان

السنة السادسة والأربعون بعد المئة - عمرو بن قيس الملائي - ج: 12 - ص: 181

وقالت له: ضيغم، قال: لبيك، قالت: أتحبُّ الموت؟ قال: نعم، قالت: ولم؟ قال: رجاء خير ما عند الله، فبكت العجوز وبكى، وتسامع أهلُ الدار، فجلسوا يبكون لبكائهم.

وقالت له يومًا آخر: ضيغم قال: لبيك يا أمَّاه، قالت: أتحبُّ الموت؟ قال: لا، قالت: ولم؟ قال لكثرةِ تفريطي وغفلتي عن نفسي، فبكت العجوز وبكى ضيغم، وبكى أهلُ الدار.

وقال رجلٌ لأمِّ ضيغم: ما أطولَ حزن ضيغم! فبكت وقالت. لمثل ما نُدِبَ إليه فليحزن، ذهب الحسن وأصحابه بالحزن، وهل رأيتَ محزونًا قط؟

وكان لا يشربُ الماءَ البارد، فقيل له في ذلك، فقال: حَانتْ منِّي نظرةٌ إلى امرأة، فجعلتُ على نفسي ألا أذوقَ الماء البارد أيَّام الدنيا، أنغِّصُ عليها الحياة، وكان ينشد: [من الكامل]

قد يَخزُنُ الورع التقيُّ لسانَه … حذوَ الكلامِ وإنَّه لمفوَّهُ

وكانت وفاته في هذه السنة رحمة الله تعالى عليه (١).

عمرو بن قيس المُلَائي

من الطبقة الرابعة من أهل الكوفة، كان من الأبدال، وكان يقول: حديثٌ أرقِّقُ به قلبي وأبلغُ به إلى ربِّي أحبُّ إليَّ من خمسين قضيةً من قضايا شريح.

وكان سفيان الثوري يقعُد بين يديه ينظرُ إليه، لا يكاد يَصرِفُ بصره عنه. وكان يصوم الدهر ولا يعلم به أحد.

ولَمَّا احتُضر بكى، فقال له أصحابه: علامَ تبكي؟ فلقد كنتَ والله منغَّصَ العيشِ أيَّام حياتك، فقال: والله ما أبكي على الدنيا، وإنَّما أبكي خوفًا أن أحرم خير الآخرة (٢).

وقال سفيان الثوري: عمرو بن قيس هو الذي أدبني، علَّمني قراءةَ القرآن

---

(١) وكذا أورده ابن الجوزي في المنتظم ٨/ ٩٨ في وفيات هذه السنة. وقال الذهبي في السير ٨/ ٤٢١، والصفدي في الوافي بالوفيات ١٦/ ٣٧٤: توفي سنة ثمانين ومئة. والله أعلم.
وانظر ترجمته أيضًا في صفة الصفوة ٣/ ٣٥٧.
(٢) في صفة الصفوة ٣/ ١٢٥: خوف الآخرة.