للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر سبب خروج اليمن على العرب]

كان ذو نواس على اليمن، وهو الذي قتل لَخْنيعة، وكان يهوديًا، فبلغه أن أفيميون من بقايا النصارى، دخل اليمن، وكان مجابَ الدعوة، يُبرئ الأكمه والأبرص، فأقام بينهم، وظهرت كراماته، فآمن به أكثرُ أهل اليمن، وكان بنَجران نخلَة طويلة يَعبدونها، فدعا عليها، فيَبِسَتْ، وبلغ حديثُه ذا نواس، فسار إليهم، فخَدَّ لهم الأخاديد، وخيَّرهم بين العَوْد إلى اليهودية وبين أن يَرميَهم في الأخاديد، فاختاروا القَتْلَ، فأحرق منهم اثني عشر ألفًا، وقتل سبعين ألفًا، وعاد إلى صَنْعاء، وكان ذلك في أيّام كسرى أنوشروان، وفي ذلك نزل قوله تعالى: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ [البروج: ٤].

ولما أكثر ذو نواس القتلَ في النصارى، خرج رجل منهم يقال له: ذو ثَعْلبان، ومعه حَبْر من أحبارهم ومعه الإنجيل قد احترق، فركبا البحر إلى النَّجاشي، وكان نصرانيًا، فدخلا عليه وبكيا بين يديه، وأخرجا الإنجيل وقد احترق، وقيل: إن ذا ثَعْبان خرج أولًا إلى قيصر، واستنصر به، فقال: أرضُكم بعيدةٌ عني، وليس عندي سُفن، وسأكتب لك إلى النَّجاشي فإنه قريبٌ منكم. ثم كتب له إلى النجاشي، فجهَّز معه تسعين ألفًا من الحبشة، وأمَّر عليهم أَرْياط بن أَسْحم (١)، وفي جيشه أَبرهة بن الصَّباح صاحبُ الفيل، فعبروا من بلاد ناصع والزّيْلَع، وهو أضيق مكان في البحر بين اليمن والحبشة، فخرج إليهم ذو نواس بحِمْيَر والقبائل، فاقتتلوا، فانهزم ذو نواس، وأتى البحرَ، فاقتحم به فرسُه، فكان آخر العَهْدِ به. وفيه يقول عَمرو بن معدي كرب: [من الوافر]

أَتوعِدُني كأنّك ذو رُعَيْنٍ … بأنعمِ عيشةٍ أو ذو نُواسِ

وكائنْ كان قبلَك من نعيمٍ … ومُلكٍ ثابتٍ في الناس راسِي

أزال الدهرُ مُلْكَهم فأضحى … يُنَقَّل من أُناسٍ في أُناسِ (٢)

فأقامت حمير بعده ذا جَدَن، فالتقى بالحبشة ثانيًا فهزموه، وغرق أيضًا في البحر، وكان النجاشيّ قد أوصى أَرْياط أن يُخرب حصون اليمن، ويقتلَ ثُلُث رجالها، وَيسبي ثلثًا، ويَبعثَ إليه بالسبايا، ففعل، وأخرب غُمْدان وسَلْحين وغيرهما.


(١) في مروج الذهب ٣/ ١٥٧: أضخم.
(٢) ديوانه ١٣١، والسيرة ١/ ٤٠، والبدء والتاريخ ٣/ ١٨٣.