وعبادته، فمنهم من آمن ومنهم من صدَّ عنه، فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة، فدخلت في أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم، فماجوا وتحيَّروا، فلمَّا أشفقوا أن يهلكوا بها عجُّوا إليه بصوت واحد فكشفها عنهم، فدخلوا في دعوته، فجنَّد منهم أممًا عظيمة، ثم انطلق بهم يقودهم والنور بين أيديهم والظلمة تسوقهم من خلفهم، وسار يريد الأمَّة التي في قطر الأرض الأيمن التي يقال لها: تأويل، والأمم تتبعه، فإذا انتهى إلى بحر بنى سُفنًا من ألواحٍ صغارٍ ونظمها، ثم حمل فيها مَن معه، فإذا قطعها دفع إلى كلِّ واحد منهم لوحًا فلا يكترثن بحمله، حتَّى انتهى إلى ناسك فأطاعوه، وإلى هاويل ففعل كذلك، ثم سار إلى مطلع الشَّمس إلى منسك، وحكم على جميع الأمم، ووصل إلى سد يأجوج ومأجوج، وذكر شكاوى أهل تلك البلاد منهم، وقالوا: اجعل ﴿بَينَنَا وَبَينَهُمْ سَدًّا﴾ [الكهف: ٩٤] فإنهم يتسافدون كالبهائم، ويأكلون النَّاس والحشرات، فقاس الإسكندر السدَّ فوجد مكانه مئة فرسخ، فحفر أساسه، وجعل عرضه خمسين فرسخًا ثم بناه وشرَّفه. وذكر الثعلبي كلامًا اختصرته (١).
فصل في ذكر الأمَّة الصالحة التي مر بها الإسكندر
ذكر وهب بن منبه عن صفوان بن عمرو الخزاعي قال: أتى ذو القرنين على أمة صالحة ﴿يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٩] فوجد حالتهم في العدل والتراحم سواء، أخلاقهم حسنة، وطريقهم مستقيمة، وقلوبهم طاهرة، وليس في أيديهم شيء ممَّا يتعامل به النَّاس، قد احتفروا قبورهم على أبواب بيوتهم، فإذا أصبحوا جاؤوا إليها فتعاهدوها وصلُّوا فيها، فإذا تعالى النهار خرجوا إلى البرِّيَّة فَرَعَوْا بقلها كما ترعى الدوابُّ الحشيش، وليس على بيوتهم أبواب، ولا عليهم ولاة ولا بينهم قضاة، ولا يتنازعون ولا يتباغضون ولا يتحاسدون ولا يقتتلون، وليس فيهم فقير ولا مسكين، فعجب الإسكندر منهم وقال: أما لكم ملك؟ قالوا: بلى رجل جالس على رأس هذا الجبل، فأرسل إليه فقال: ما لي إليك من حاجة. فركب الإسكندر وصعد إليه، فسلَّم عليه، وإذا رجل من أعقل النَّاس وأزهدهم، وبين يديه جماجم يقلِّبها بيده،
(١) انظر تفسير الثعلبي ٦/ ١٩٤، و "عرائس المجالس" ص ٣٦٤ - ٣٦٦، وما بين معكوفين منه.