فعَجِب وفكَّر، وعبث ببعض الرياحين فضربته الحيةُ، فأيبست شِقَّه الأيمن، وأذهبت عينَه اليمنى وسمعَه الأيمن، ففهم وعلم أن قلان طره آثرت الموت في العزِّ على الحياة في الذل، ومات من ليلته. وانقضى مُلكُ اليونان، وزالت أيامُهم، ودَثَرت علومهم بموت قُلان طره.
وكانت لهم بيوتٌ للعبادات يُعظِّمونها، ومنهم من يَعبد الفَرقَدينِ، وبعضهم يعبد الأصنام. وكان لهم بيوت عبادات بالمغرب وبالأندلس وبمصر. ويقال: إن الهَرَمين كان عليهما بيتان، بيتٌ على جبل أنطاكِيَة أخربه قسطنطين، وبيت بالقدس.
وقال أبو معشر: كانت خزائنُ علومهم بقُبرس، فحُملت إلى المآمون فنقلها إلى العربية، فهي التي في أيدي الناس اليوم، من المنطقيات والعقليات والطب والنجوم والإلهيات والطبيعيات وغير ذلك، وملك الرومُ بلادهم.
[فصل في ذكر حكمائهم]
وفيهم كثرةٌ، فنذكر أعيانَهم، ويقال: إن أولهم سُقراط الحُب، وهو أستاذ الكل، وكان قد أقام في حُب مكسور سبعين سنة لم يخرج منه إلا لحاجةٍ.
جاءه بعضُ ملوك اليونان فسَلَّم عليه وهو على فرسه، وقال له: أيها الحكيم الفاضل ألك حاجةٌ؟ قال: نعم. قال: وما هي؟ قال: تنحي فرسَك وتنصرفُ عني، فقد كنتُ أَستَدفئ بحر الشمس فمنعتَني.
ومن كلامه: لا تخَفْ موت البدن، ولكن خَفْ موت النفس. فقيل له: ألستَ القائلَ بأن النَّفس الناطقة لا تموت؟ فقال: بلى، إذا انتقلت النفسُ الناطقة من حدِّ النطق إلى الحد البهيمي (١) بطل النطق؛ فالتحقت بالموت.
وقال له رجل قد أَسنَّ: إني أريد أن أَنظر في العلوم وأستحيي. فقال له: أتستحيي أن تكون في آخر عمرك خيرًا من أوله؟
وقال: خساسةُ الرجل تُعرف بشيئين: بكلامه فيما لا يعنيه، وبجوابه فيما لم يُسأل عنه.