واختلفت العلماء في هذا فأجراه بعضهم على ظاهره وقالوا: إنما كان إبراهيم مسترشدًا طالبًا للتوحيد حتى وفَّقه الله تعالى وآتاه رشده. ومثله قوله تعالى: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾ [الشورى: ٥٢] ومعناه: فلمّا آتاك علمت.
قالوا: وهذا كان في زمان الطفولة، فإنه كان ابن سنة أو ثلاث، والدليل عليه قول ابن عباس: فلمَّا رأى الكوكب عبده، فلما رأى القمر عبدَهُ. وأنكر الآخرون هذا -وهؤلاء القائلون بتنزيه الأنبياء ﵈ وقالوا: هذا التأويل غير مستقيم وإن الأنبياء منزَّهون عن هذا، وغير جائز أن يكون لله رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلَّا وهو لله مُوحِّد وبه عارف، ومن كل معبود سواه بريء، وخصوصًا الخليل، فإنّ الله آتاه رشده من قبل، وقال: ﴿أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ٨٩] فكيف يُتوهم هذا على من عصمه الله وطهَّره وجعله أصل الأنبياء، وقال في حقِّه: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)﴾ [الأنعام: ٧٥] أفتراه أراه الملكوت ليوقن، فلمّا أيقن كان ثمرة إيقانه أنّه لمّا رأى الكوكب قال: هذا ربي؟! هذا غير جائز.
قالوا: وفيه أربعة أوجه من التأويل:
أحدها: أن إبراهيم أراد أن يستدرجهم بهذا القول، ويعرّفهم خطأهم وجهلهم، ويقيم الحجة عليهم، فأراهم تعظيم ما عظَّموا وملتمس الهدى من حيث ما التمسوا، فلمّا أفل أراهم النَّقص الداخل على النجوم، ليتيقَّنوا خطأ ما كانوا يدَّعون من تعظيم النجوم وعبادتها. قالوا: ونظير هذا الحواري الذي ورد على قوم يعبدون صنمًا لهم، فأظهر تعظيمه وأراهم الاجتهاد في دينهم فأكرموه وعظَّموه، وصدروا في كثير من الأمور عن رأيه إلى أن دهمهم عدوّ لهم خافه الملك على مملكته، فشاوروا الحواريَّ في أمره فقال: الرَّأي أن ندعو إلهنا -يعني الصنم- حتى يكشف ما بنا فإنَّا لمثل هذا اليوم كنا نرجوه. فاجتمعوا حوله يجأرون ويتضرَّعون، وأمرُ عدوّهم يستفحل. فلمّا تبيَّن لهم أن صنمهم لا ينفع ولا يدفع ولا يسمع قال الحواريّ: ها هنا إله تدعونه فيسمع ويجيب وينفع، فهلمّوا ندعوه، فدعوا الله تعالى وتضرَّعوا إليه، فصرف عنهم ما كانوا