أنبأنا أبو اليُمن زيد بن الحسن الكندي ﵀ بإسناده عن عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدُّنيا القرشي من كتاب "الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان"، قال: حدَّثني أبو يوسف يعقوب بن عبيد بإسناده إلى عبد الله بن زياد المدني عن بعض من قرأ الكتب: أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض ومغاربها بلغ أرض بابل، فمرض بها مرضًا شديدًا أشفق من مرضه أن يموت، بعدما دَوَّخَ البلاد وحواها، واستعبد الرجال وجمع الأموال، فدعا كاتبه وقال له: خفِّفْ عليَّ المؤنة بكتاب تكتبه إلى أمي تعزِّيها بي، واستعنْ ببعض علماء فارس، ثم اقرأه عليَّ، فكتب الكتاب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من الإسكندر بن قيصر رفيق أهل الأرض بجسده قليلًا، ورفيق أهل السماء بروحه طويلًا، إلى أمه روفية ذات الصفا التي لم تتمتع بثمرتها في دار القرب، وهي مجاورته في دار البُعد عما قليل، يا أمتاه، يا ذات الحلم، أسألك برحمي وودِّي وولادتك إيَّاي هل وجدت لشيء قرارًا ثابتًا أو خيالًا دائمًا؟ ألم تَرَي إلى الشجرة كيف تنضر أغصانها ويَخرج ثمرها وتلتف أوراقها، ثم لا يلبث الغصن أن يتهشَّم والثمرة أن تتساقط والورق أن يتناثر؟! ألم تَرَي إلى النبت الأزهر يصبح نضيرًا ويمسي هشيمًا؟ ألم تَري إلى النهار المضيء كيف يخلفه الليل المظلم؟ ألم تري إلى القمر الباهر ليلةَ بدره كيف يغشاه الكسوف؟ ألم تري إلى شهب النَّار الموقدة ما أسرع ما تخمد؟ ألم تري إلى عذب المياه الصافية ما أسرعها إلى البحور المغيرة؟ ألم تري إلى هذا الخلق قد امتلأت بهم الآفاق واستقلَّت به الأشياء وولهت به الأبصار والقلوب؟ إنَّما هما شيئان: إمَّا مولود وإمَّا ميِّت، وكلاهما مقرون به الفناء. ألم تري أنَّه قيل لهذه الدار: روحي بأهلك فإنَّك لستِ لهم بدار، يا والدةَ الموت، ويا مورثَةَ الأحزان، ويا مفرِّقة بين الأحباب، ويا مخربة العمران؟ ألم تري أنَّ كل مخلوق يجري على ما لا يدري؟ وأنَّ كلَّ واحد مستيقن منهم غير راض بما هو فيه، وذلك لأنَّه منزل لغير قرار؟ يا أمَّاه، هل رأيت معطيًا لا يأخذ، ومقرضًا لا يتقاضى، ومستودعًا لا يستردّ وديعته؟ يا أمَّاه، إن كان أحد حقيقًا بالبكاء فلتبكِ السماوات على نجومها، والحيتان على بحورها، أو البحور على مائها، وليبك الجوُّ على طائره، والأرض على أولادها، والنبت الذي يخرج منها،