للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

والبُوقات، فيضربون بها، وتجتمع الشباب وأولو البأس والقوة فيرقصون، ثم يتهافتون من أعلى الجبل إلى الشجرة، فتَلَقَّاهُم الأَسنَّةُ، منهم مَن يَدخُل السِّنانُ في جنبه فيخرج من الجنب الآخر، وتارةً يقع في عينه أو في بطنه، فإن مات وإلا بقي على حاله معلَّقًا حتى يموتَ ويَبْلَى ويتقطَّع ولا يدفنوه.

وحكى شيخٌ من أهل بغداد قال: خرجتُ وأنا يومئذٍ ببعض بلاد الهند إلى ظاهر البلد، أتنزَّه بين البساتين؛ وإذا بشابٍّ قد رَبَط عجوزًا إلى شجرة، وجمع لها حطبًا، فقلتُ: مَن هذه منك؟ قال: أُمِّي. قلت: وما تصنعُ بها؟ قال: أحرقها. قلت: ولمَ؟ قال: قد ضَجِرتُ منها، وأريد أن أقرِّبَها. قال: فقلت لها: أَوَ تُحبِّين هذا؟ قالت: نعم، أمضي إلى هناك، وأشارت إلى السماء، فأَحْرَقَها.

قلت: فانظُروا إلى هذه العقول التي كادها بارئها، فكيف تتعبَّدُ بإتلاف النفوس التي يُستَدلُّ بها على صنعة مُنشئها؟! وأين هذا من الحِكَم التي يَمنُون بها على جميع الأمم؟ فسبحان مَن أظهر فيهم أسرارَ حكمته، وعجائبَ قُدرته، وكم لهم من مَثَلٍ سائر، ولفظٍ أحسنَ من اللآلئ والجواهر! فنذكر طرفًا من ذلك.

[فصل]

ذكر العلماءُ بأخبار العالم فنونًا من كلامهم وأخبارًا من (١) أيامهم

فمنه قول وزير البرهمن: الملكُ العاقل يزدادُ برأي الوزير الحازم زيادة البحر بموادّه من الأنهار، ويَنالُ بالحَزْمِ ما لا ينال بالقُوَّة والاستظهار، وقال: المستشيرُ وإن كان أفضلَ من المُشير، فإنه يَزدادُ برأيه رأيًا، كما تزدادُ النارُ بالسَّليط (٢) ضياءً.

وقال حكيم آخر: إذا أحدَثَ لك العدوُّ صداقةً لعِلَّةٍ ألجأتْهُ إليك، فمع ذهاب العلَّة ترجِعُ العداوة، كالماءِ فإنك تُسَخِّنُه، فإذا أمسكتَ عنه رجع إلى الأصل باردًا.

قلت: أخذه شاعر فقال: [من المتقارب]


(١) في (خ) و (ك): وأخبار أمر.
(٢) السليط: الزيت. (القاموس المحيط)، والقول في الأدب الصغير لابن المقفع ص ٣٢ (رسائل البلغاء)، وعيون الأخبار ١/ ٢٧، ٢٨.