أرسل إليهم فأطلقَهم، وقال: إنَّه واصلٌ فاستتروا، وطلبَ منهم أن يحاللوه، ففعلوا ودعوا له، ولَمَّا قرب أبو جعفر من مكَّة بعث إليه محمد بن إبراهيم بألطاف وهدايا، فلمَّا أُخبِر بها المنصور أمرَ أن تضربَ وجوهها نحوَ مكَّة، ففعلوا، ولقيه محمد في بعضِ الطريق فسلَّم عليه، فلم يرد، وكان محمدٌ يسير ناحيةً، فعُدِل بمحمل أبي جعفر عن الطريق إلى شعب، فنزل فبال فيه، ثم ركب ومحمدٌ واقفٌ ومعه طبيب، فقال له محمد: اذهب وانظر نجوه، فمضى الطبيب وعاد، وقال له: قد رأيتُ نجو رجلٍ لا يعيش إلَّا يسيرًا، فماتَ بعد أيام، وسَلِم محمدٌ منه (١).
[ذكر وصية أبي جعفر لابنه المهدي لما سار إلى مكة]
وقد اختلفت الرواياتُ في ذلك، أمَّا الهيثمُ بن عديّ فإنَّه قال: شخصَ المنصورُ متوجِّهًا إلى مكة، فنزل بقصر عَبْدَويه، وأقام به ثلاثًا، وانقضَّ كوكبٌ عظيمٌ بعد إضاءة الفجر، وبقي أثرُه بيِّنًا إلى طلوع الشمس، وذلك لثلاثٍ بقين من شوَّال. فكان مِمَّا أوصاه أنْ قال له: إنِّي سأوصيك، وما أظنّك تفعلُ شيئًا منها، وكان لأبي جعفر سَفَطٌ فيه دفاتر، لا يأمنُ أحدًا عليه، ومفتاحُه في كمه، فأعطاه للمهدي وقال له: احتفظ به، فإنَّ فيه علمَ آبائكَ، ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن حزبك أمرٌ فانظر في الدفتر الكبير، فإنْ أصبتَ ما تريد فيه، وإلا فالثاني والثالث، حتَّى بلغَ سبعة، فإن لم تصب، فالكراسة الصغيرة، فانظر فيها فإنَّك واجدٌ ما تريد فيها، وما أظنك تفعل.
وانظر إلى هذه المدينة فإياك أن تستبدل بها، فإن فيها عزَّك، وقد جمعت لك فيها من الأموال ما لو حُبس عنك الخراج عشرَ سنين كان عندك كفايةٌ لأرزاقِ الجند والنفقات وعطاء الذُّرِّيَّة ومصالح الثغور، فاحتفظ ببيوت الأموال، فإنَّك لا تزالُ عزيزًا ما دامَ بيتُ مالِك عامرًا، وما أظنك تفعل.