وهو حصن بين العراق والشام والجزيرة، فيه فُرسان وسلاحٌ كثير، وهو مجاور للروم، وعزم خالد على قَصْده، وبلغ الروم فغضبوا، واستعانوا بمَن يليهم من مسالح (١) أهل فارس والعرب: تَغْلب وإياد والنَّمِر وغيرهم، واستخلف خالد على الحيرة عياض بن غنم، وسار إليهم في جيوشهم، والتَقَوا والفرات بينهم، خالد من المغرب، وهم من المشرق، فراسلوه وقالوا: إما أن تَعبُر إلينا، أو نَعبر إليك، فقال: بل أنتم فاعبروا، فقالوا: تنحَّ من مكانك حتى نَعبر، فقال: لا نفعل، ولكن اعبُروا أسفلَ منا، فعبروا وكانت بينهم وقعة عظيمة، قُتل منهم مئةُ ألف، وأُسِرَ مَن بقي، وغنم المسلمون أموالهم، وذلك أول ذي القعدة، وقيل: في نصفه.
[ذكر حجة خالد]
قال سيف: لما فرغ خالد من الفِراض أظهر أنه قاصدٌ الحيرة، وكتم حَجَّه عن الناس، ثم استخلف على الجزيرة المثنّى بن حارثة، وأخذ معه عِدَّةً من أصحابه، وسار يَعتسف الفيافي والمفاوز بالسَّمْت، فتأتَّى له ما لم يَتأتَّ لغيره من الأَدِلّاء، وصار ذلك طريقًا من الحيرة إلى مكة وإلى هلمَّ جَرّا، وهي الجادَّةُ المعروفة لأهل العراق، وكان خروجُه إلى ذات عِرْق ثم إلى عرفات، فحجَّ مع الناس ونَسك المناسك، وعاد إلى العراق في الطريق الذي جاء فيه.
وبلغ ذلك أبا بكر رضوان الله عليه، فشق عليه لكونه لم يستأذِنْه في ذلك، فعاتبه بأنْ كتب إليه، فصرفه من العراق إلى الشام، وهذا يدلُّ على أن أبا بكر لم يحجَّ في هذه السنة، لأنه لو حجَّ لاجتمعا، ولم يحتجْ إلى مكاتبته، ولم يُنقل ذلك، فكتب أبو بكر إلى خالد:
من عبد الله بن عثمان خليفة رسول الله ﷺ إلى خالد بن الوليد، سلام عليك، أما بعد، فإذا أتاك كتابي هذا فسِرْ بمَن معك من المسلمين إلى اليرموك، وإياك أن تَعودَ إلى
(١) في (خ) و (أ) والمنتظم ٤/ ١١٠: مشايخ، والمثبت من الطبري ٣/ ٣٨٣، والكامل ٣/ ٣٩٩، والمسالح: القوم المسلَّحون في الثغور.