وفي أيامه مات قيصرُ ملك الروم، فتغلَّبَ بعضُ الروم على ابن قَيْصر فأخرجه من المُلك، فقَدِم على أبرويز مستنصراً به، فأنجده وبعث معه ولدَه شهريار في مئة ألف، فأوغلوا في البلاد -وفي هذه الوقعة نزل قولُه تعالى ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم: ١] وقتلوا المتغلِّب على الرومية بأنطاكية، فوثب آخرُ بالقُسطنطينية فغلب عليها، وجهَّز ألف مركب إلى قتال شهريار، فيها السلاح والأموال والخزائن، فضربتها الريح فألقتها إلى ساحل أنطاكية، فغنم شهريارُ ما فيها وجهَّز ابنَ قيصر فملك القسطنطينية.
ذكر قصة أبرويز مع وزيره بُزرْجُمهْر (١)
وكان بزرجمهر بن البختكان وزير أبرويز والحاكمَ عليه، وكان من حكماء الفُرس. فلما مضى من ملك أبرويز ثلاثَ عشرة سنةً، ظهر طغيانه وفساده، فوُشي إلى أبرويز أنه اتفق مع الأساورة على قتله، فأظهر أنه اتَّهمه بالزندقة، فقبض عليه، وقال: الحمد لله الذي أظفرني بك. فقال له بزرجمهر: فكافِئْه بما يُحبُّ كما أعطاك ما تُحب. قال: بماذا؟ قال: بالعفو. فحبسه في بيت مظلمٍ مثل القبر، وصَفده بالحديد، وألبسه خشن الصوف، وأمر أن لا يُزاد في كل يوم على قُرصين من شعير، وكفِّ ملحٍ جريشٍ، ودَورقٍ من ماء.
فأقام شهوراً لا يُسمع منه لفظةٌ، فأمر أبرويز تلامذته بالدخول عليه، وأن يخبروه بما يقول، فدخلوا عليه فرأَوا لونَه نقيّاً، وسَحْنته ظاهرةً، وجسمَه صحيحاً، فقالوا: أيها الحكيم، أنت في هذا الحديد والضيق، وحالُك كما نرى!؟ فقال: إني عملت جُوَارِشاً من ستة أخلاطٍ، فأنا آخذ منه كل يوم شيئاً، فهو الذي أبقاني على ما تَرون. قالوا: فصِفْه لنا، لعلنا نقع فيما وقعتَ فيه فنتناول منه.
فقال: أما الخلط الأول: فالثقة بالله تعالى، وأما الثاني: فعلمي بأن كلَّ مَقدورٍ كائنٌ لا محالة، وأما الثالث؟ فالصبر أَولى ما استعمله المُمتَحَن، وأما الرابع: إن لم أصبر أيش أعمل؟ وأما الخامس: فقد يمكن أن أكون في شرٍّ مما أنا فيه، السادس:
(١) جمع المصنف ها هنا بين ما ورد في مروج الذهب ٢/ ٢٢٤ من قصة أبرويز مع بزرجمهر، وما ورد في المنتظم ٢/ ١٣٦ من قصة كسرى أنوشروان مع بزرجمهر، فجعلهما قصة واحدة.