وزكَّاه عنده أبو يعلى بن الفراء الحنبلي وابن السِّناني، وكان حسنَ الطريقة، كريمَ الأخلاق، عفيفًا، نزهًا، لا تأخذه فِي الله لومة لائم، وكان فيه حِدَّة، لا يقبل من سلطان عطية، ولا من صديق هدية، وأقام بمسجد بقطيعة الرَّبيع يؤمُّ بأهله ويُدرِّس ويُقرأ عليه الحديث زائدًا على خمس وخمسين سنة، ولمَّا مات ابنُ الدامَغاني أشار الوزير أبو شجاع على المقتدي بتقليده القضاء فامتنع، فما زالوا به حتَّى تقلَّده فِي رمضان سنة ثمان وسبعين، وخُلِعَ عليه، وقُرئ عهدُه، وشرط أن لا يأخذ على القضاء رزقًا، ولا يقبل شفاعةً، ولا يُغيِّر ملبوسه، فأُجبيب إِلَى ذلك، ولم يتغيَّر عليه حالُه فِي مأكل ومشرب، وكان يتولَّى القضاء بنفسه ولا يستنيب ولا يحابي مخلوقًا، فلمَّا أقام على الحقِّ نفرت عنه قلوب المبطلين، ولفَّقوا له معايبَ لم يلتصِقْ به شيءٌ منها، فسخط عليه المقتدي، ومنع الشهود أن يحضروا مجلسه، فلم يتأثَّر، ثم علم المقتدي باطنَ حاله، فرضي عنه بعد سنين وشهورًا، وعاد الشهود إِلَى مجلسه، واستقامت أحوالُه، ولم يجدوا من يقوم مقامَه.
وادَّعى عنده بعضُ الأتراك على رجل دعوى، فقال: ألكَ بينة؟ قال: نعم، المشطب بن محمَّد الفرغاني -وكان من فحول المناظرين، وكان يلبس الحرير ويتختَّم بالذَّهب- فقال التركي: فالسلطان ملك شاه ووزيره نظام الملك يلبسان الحرير ويتختَّمان بالذَّهب؟ فقال القاضي: لا جَرَم لو شهدا عندي على باقة بقلٍ ما قبلتُ شهادتَهما.
وكانت وفاتُه فِي شعبان، ودُفِنَ عند أبي العباس بن شُريح قريبًا من الكَرْخ، وكان ورعًا ثقةً صدوقًا.
[منصور بن نصر الدولة بن مروان]
صاحب ميَّافارقين، قد ذكرنا سيرتَه، وأنه استولى على الجزيرة فمات بها، وحُمِلَ إِلَى آمِد فدُفِنَ بقبَّةٍ بَنَتْها له زوجتُه ستُّ النَّاس بنت عميد الأمة سعيد بن نصر الدولة، ودُفِنت بها أَيضًا، وهي مُطلَّة على دجلة.
فصل ولاية بني مروان الدياربكر:
أول ولايتهم سنة ثمانين وثلاث مئة، واستولى ابنُ جَهير على بلادهم سنة تسع وسبعين وأربع مئة، وتُوفي منصور فِي هذه السنة، فكانت مُدة ولايتهم نيفًا ومئة سنة.