للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فصل في محنة داود ]

واختلفوا في سبب امتحان الله داود على أقوال:

أحدها: أنه جلس يومًا يقرأ في الكتب، فوجد فيها مآثر آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فتمنى منازلهم وقال: يا رب، ذهب آبائي بكل خير، وإني أسمع الناس يقولون: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فاجعلني رابعًا، فقال: لستَ هناك، إنهم صبروا على بلائي ورضوا بقضائي، فإنَّ إبراهيم ابتلي بنمرود، وبالنار وغيرها فصبر، وإن إسحاق ويعقوب جادا لي بنفسيهما، وإن يعقوب ابتلي بفراق محبوبه وأعزِّ الخلق عليه فقام ثمانين سنة ولم ييأس من رَوْحي طرفة عين، فقال: يا رب، فأعطني الذي أعطيتهم وابتلني (١) بما شئت، فأوحى الله إليه: إني مبتليك في وقتِ كذا فاحترس. وكان يحرس محرابه ثلاثة وثلاثون ألفًا من أولاد الأنبياء. فذلك قوله تعالى: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ﴾ [ص: ٢٠]، وهذا قول الحسن والضحاك والسُّدي وغيرهم (٢).

والثاني: أنه حدَّث نفسه أنه يقطع يومًا بغير مقارفة ذنب.

قرأت على شيخنا الموفق المقدسي قال: حدثنا أحمد بن المبارك بإسناده عن يحيى بن كثير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "كان داودُ قد قَسَم الدَّهرَ أربعةَ أقسامٍ، يوم لبني إسرائيلَ يُدارِسُهم العلمَ ويُدارِسونه، ويوم للنساءِ، ويوم للمحرابِ ويوم للقضاءِ، فبينما هو معَ بني إسرائيل يُدارِسهم العلمَ قال بعضهم: لا يأتي على ابن آدم يومٌ لا يصيبُ فيه ذنبًا، فقال داود في نفسه: اليوم الذي أخلو فيه للمحراب تتنحَّى عني الخطيئةُ، فأوحى الله إليه: يا داودُ، خذ حِذرَك حتى ترى بلاءَكَ" (٣).

والثالث: لأنه قال يومًا لبني إسرائيل: والله لأعدلنَّ فيكم، ولم يستثن، قاله مقاتل.

والرابع: أنه كان كثير العبادة، فأعجبته نفسه، فجاء جبريل فقال: يا داود، أما علمتَ بأن العُجْبَ يأكلُ العمل كما تأكل النار الحطب، فإن عجبت ثانيًا وكلتك إلى


(١) من هنا يبدأ خرم في "ب" إلى ذكر توبته.
(٢) انظر "عرائس المجالس" ص ٢٨١ - ٢٨٢.
(٣) "التوابين" (١٠).