للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ذِكر عبدِ الله المأمونِ بن هارونَ الرَّشيد (١)

ولد سنةَ سبعين ومئة. و [قال علماءُ السِّيَر:] كان المأمون إمامًا في كلِّ فنٍّ من العلوم العربيةِ والنَّحو والشِّعر والحديثِ والطِّبِّ وعلومِ الأوائل والنجومِ والأَرصاد، وعمل الزِّيجَ المأموني، واستخرج كتبَ الحكماءِ واليونانِ من جزيرة قُبرس، فنقلها له أبو مَعشرٍ المنجِّمُ إلى العربية [وله معه قِصص.

وقد وصفه الحسنُ بن وَهْبٍ فقال:] كان محمودَ السيرة، عفيفَ الطبيعة، كريم الشِّيمة، مباركَ الرأي، ميمون النَّقيبة، مؤدِّيًا حقَّ الله، مقرًّا له بالشكر على نِعمه، لا يأمر إلَّا بالعدل، ولا ينطِق إلَّا بالفضل، عاملًا بكتاب الله، مراعيًا لدينه وأَمانته، كافًّا للسانه ويدِه عن رعيَّته، وإنَّما شان الكلَّ بما أَحدث من المقالة القبيحة بخلق القرآن، ولم يكن له فيه رأي، وإنَّما حمله عليه أحمدُ بن أبي دُؤاد، فقال له: هذا من [باب] الدِّين ومعالمِ الإِسلام [وإنَّه لا يصحُّ الدينُ إلَّا به، فقَبِله.

وكان هارونُ يقول: إني لَأعرف في عبد اللهِ حزمَ المنصور، ونُسكَ المهدي، وعزَّة نفسِ الهادي، ولو أشاء أن أنسُبَه إلى الرابع لنسبتُه، واللهِ إني لأَحمدُ سيرتَه، وأرضى طريقتَه، وأَستحسن سياستَه، وأرى قوَّته وذهنه، وآمَن ضعفَه ووهنه، وقد قدَّمت محمدًا عليه، وإنِّي لأعلم أنَّه منقادٌ إلى هواه، منصرفٌ مع طربه، مبذِّر لما حوته يده، مشارك الإماءِ والنساءِ في رأيه، ولولا أمُّ جعفرٍ وميلُ بني هاشمٍ لقدَّمت عبدَ الله عليه.

قِصَّة المأمونِ مع اليهوديّ:

روى الحسينُ بن فَهمٍ عن يحيى بنِ أكثمَ قال: كان المأمونُ قبل الخلافةِ يَجلس للفطر، فدخل عليه رجلٌ حَسَن الوجه طيِّب الرائحةِ نقيُّ الثوب، فتكلَّم فأحسن الكلام، فلمَّا تقوَّض المجلسُ دعاه، قال له: يهوديٌّ أنت؟ قال: نعم، قال: أَسِلمْ حتى أفعلَ معك كذا وكذا، فقال: ديني ودينُ آبائي لا أَتركه.

فلما كان بعد سنةٍ دخل على المأمون وقد أَسلم، فتكلَّم في الفقه فأَحسن، فلما


(١) تنظر ترجمته في السير ١٠/ ٢٧٢ وما بعدها، وبقية مصادر ترجمته ثمَّة.