ولم يكترث بالإسكندر ولم ينزعجْ له. فقال له الإسكندر: أخبرني عن هذه الحال التي أنتم عليها، فإني لم أجد في الأمم أحدًا على مثلها، فقال: سلْ عما بدا لك، قال: ما أرى في أيديكم شيئًا من الدُّنيا، فهلَّا استمتعتم بالذهب والفضة وتعاملتم بهما؟ فقال: لأنا ما رأينا أحدًا قال منهما شيئًا إلَّا وتاقت نفسه إلى ما هو أعظم منه، فقال: فما بالكم حفرتم قبوركم على أبواب بيوتكم؟ قال: لأنّا إذا نظرنا إليها قصرت آمالنا فنذكر الموت، قال: فما بال بيوتكم ليس لها أبواب؟ قال: ليس بيننا متهم ولا خائن، قال: فما بالكم ليس عليكم حاكم؟ قال: لأنَّا لا نتنازع في شيء، قال: فما بالكم ترعون البقل وتدعون الحيوانات؟ قال: نكره أن نجعل بطوننا قبورًا لها، وفي البقل كفاية ومقنع. قال: فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قال: لأنَّا لا نتكاثر ولا نتفاخر. قال: فما بالكم لا تتنازعون ولا تتباغضون ولا تتحاسدون؟ قال: قد ألَّف الله بين قلوبنا. قال: فما بالكم ليس فيكم فظٌّ ولا غليظ؟ قال: تواضعنا لله فنزع الحسد والفظاظةَ منا. قال: فما بالكم أطول النَّاس أعمارًا؟ قال: لأنا نعطي الحق ونحكم بالعدل. قال: فما بالكم لا تضحكون؟ قال: لا نغفل عمن لا يغفل عنا. قال: فما هذه الجماجم التي بين يديك؟ فبكى وقال: جماجم ملوك ملكوا هذه الأرض، أمَّا هذه الجمجمة فجمجمة ملكٍ مَلَكَ هذه الأرض مئة عام فعتا وبغى وتجبَّر وتكبَّر وظلم، فلمَّا رأى الله منه ذلك حسمه بالموت، فصار كالحجر الملقى قد أحصى عليه عمله حتَّى يجازيه به في معاده. ثم أشار إلى جمجمة أخرى وقال: هذه جمجمة مَلكٍ مَلكَ هذه الأرض مئة عام فعدل وأحسن وتواضع، ثم جاءه الموت فصيَّره إلى ما ترى. ثم مدَّ يده إلى جمجمة ذي القرنين وقال: وهذه الجمجمة تصير إلى ما صارت إليه هذه الجماجم، فانظر يا عبد الله، ما أنت صانع. فبكى ذو القرنين وقال: يا أخي، هل لك أن تصحبني فأتخذك وزيرًا وأشركك في ملكي؟ قال: هيهات هيهات، فقال: ولم؟ قال: لأنَّ النَّاس كلهم لي صديق، وهم لك عدوٌّ. قال: ولم؟ قال: لرفضي الدُّنيا وليس في يدي منها ما أُعادَى عليه، وهي يدك فيعادونك لأجلها. فقال: إن رأيت أن تمنَّ عليَّ بصحبتك فافعل، فقال: على شريطة، قال: وما هي؟ قال: تضمن لي شبابًا لا هرم فيه، وصحة لا سقم فيها، وحياة لا موت معها. قال: لا أستطيع ذلك، قال: فاذهب عني ودعني