للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

محبها ملام، وما في ربوتها ريبة، ولكل نور بها شيبة، وساجعاتها على منابر الورق خطباء تطرب، وهزارتها وبلابلها تعرب وتعجم، وكم فيها من جواري ساقيات، وسواقي جاريات، وثمار بلا أثمان، وروح وريحان، وفاكهة ورمان، وخيرات حِسان، وكون الله تعالى أقسم به فقال: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيتُونِ﴾ [التين: ١]، يدل على فضله المكنون، وقال : "الشام خيرة الله من أرضه يسوق إليها خيرته من عباده" (١)، وعامة الصحابة اختاروا المقام بالشَّام، وفتحُ دمشق بكر الإسلام، وما ننكر أن الله ذكر مصر، ولكن على لسان فرعون بقوله: ﴿أَلَيسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾ [الزخرف: ٥١] لكن هذا خرج مخرج العَتْب له والذم، ألا ترى أن يوسف نقل منها إلى الشام.

ثم المقام بدمشق أقرب إلى الرباط، وأوجب للنشاط، وأين قطوب المقطم من سناء سَنِير؟ وأين ذُرى مَنْف من ذروة الشرف المنير؟ وأين لبانة البيان من الهرمين، وهل هما إلا مثل السلعتين؟ وهل للنيل مع طول نيله وطول ذيله برد بردى في نقع الغليل؟ وما لذاك الكثير طلاوة هذا القليل، وإذا فأخرنا بالجامع وقبة النسر ظهر بذلك قِصَرُ القَصْر، ولو كان لهم مثل باناس لما احتاجوا إلى قياس المقياس، ونحن لا نجفو الوطن كما جفاه، ولا نأبى فضله كما أباه، وحب الوطن من الإيمان، ونحن لا ننكر أن إقليم مصر إقليم عظيم الشان، ولكن نقول كما قال المجلس الفاضلي: إن دمشق تصلح أن تكون بستانًا لمصر، ولا نشك أن أحسن ما في البلاد البستان، ولعل زين الدين يرجع إلى الحق، ويوافق على ما هو الأحق.

قلت: عاب السلطان على ابن نُجية كون أصله ومنشئه دمشق، وفضَّل عليها مصر، وليست من طارفه ولا من تلاده، وقد كان أولى أن يتشوق إلى السلطان من غير وصف لما فيه مضاهاة لوطنه وبلاده] (٢).

وفيها عَزَلَ الخليفة وزيره ظهير الدين أبا الفتح بن صَدَقَة، وكان نائبَ الوزارة، ورتَّب مكانه أبا الفَتْح محمد بن عبد الملك، فأقام إلى سنة ثلاثٍ وثمانين، وولَّى كمال الدين أبا الفتح أحمد بن هُبيرة حِجْبة الباب.


(١) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (١٧٠٠٥)، وأبو داود في سننه (٢٤٨٣) من حديث عبد الله بن حوالة، ولفظه: "عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبى إليها خيرته من عباده".
(٢) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).