للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ماء السماء، لجمالها.

وهو الذي بنى الخَوَرْنَق والسَّدير، وهو النعمان الأكبر، وكان أعورَ، وهو الذي مَلّكه أنوشروان بن قُباذ، وهو الذي أشرف يوماً على الخورنق والسدير، فنظر إلى ما حولَهما، فقال: أكلّ ما أَرى يَصيرُ إلى فناء؟ قالوا: نعم. فقال: أريد عيشاً لا يزول. فقالوا: تَخلعُ أسباب الملك، وتَلبَسُ الأَمساح، وتَسيح في الأرض، ففعل. وأقام في الملك خمساً وستين سنة.

وروى الأصمعي: أن النعمانَ بن امرئ القيس الأكبر -وهو الذي بنى الخورنق والسدير- ركب يوماً، فأشرف على الخَوَرْنَق، فنظر إلى ما حولَه، فقال لمن حضره: هل علمتُم أن أحداً أُوتيَ مثلَ ما أوتيتُ؟ قالوا: لا، إلا رجلاً منهم ساكت لا يتكلّم، وكان من حُكمائهم، فقال له: مالَكَ لا تتكلَّم؟! فقال: أيها الملكُ، إن أَذنتَ لي تكلَّمتُ. قال: قُل. قال: أرأيتَ ما جمعتَ، أشيء هو لك لم يَزُلْ ولا يزولُ، أم هو شيءٌ كان لمن قبلك، وزال عنه وصار إليك، وكذلك يزولُ عنك؟ فقال: لا، بل كان لمن قبلي فزال عنه، وصار إليَّ، وكذا يزولُ عني. قال: فسُررتَ بشيءٍ تزول عنك لذتُه غداً، وتبقى تَبِعَتُه عليك، تكون فيه قليلاً، وتُرتَهنُ فيه كثيراً طويلاً؟!

قال: فبكى النعمانُ، وقال: أين المهربُ؟ قال: إلى أحد أمرين: إما أن تُقيمَ، فتعملَ بطاعة ربك، وإما أن تُلقيَ عليك أمساحاً، ثم تلحقَ بجبلٍ، وتفرَّ من الناس، وتُقيمَ وحدَك تعبدُ ربَّك حتى يأتيَك أجلُك. قال: فإذا فعلتُ ذلك فما لي؟ قال: حياةٌ لا تموت، وشبابٌ لا يهرم، وصحة لا تسقم، ومُلْك جديد. قال: والله لأطلُبنَّ عيشاً لا يزولُ أبداً.

قال: فانخلع من مُلكه، ولبس الأمساحَ، وساحَ في الأرض، وتَبعَه الحكيم، فعبدا الله جميعاً حتى ماتا.

وهو الذي يقول فيه عدي بن زيد العِبَادِي: [من الخفيف]

أيُّها الشَّامتُ المُعَيِّرُ بالدَّهـ … رِ أَأنتَ المخلَّدُ الموفورُ

أم لديكَ العهدُ الوَثيقُ من … الأيّام بل أنتَ جاهل مغرورُ

مَن رأيت المنونَ أخْلَدْنَ أمْ مَنْ … ذا عليه من أن يُضامَ خَفيرُ