للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الحرمين، وأصلحت البرك والمصانع، وعمرت التربة عند قبر معروف، والمدرسة إلى جانبها، وأوقفت عليها الأوقاف، وتوفيت في جمادى الأُولى، وحَزِنَ الخليفةُ عليها حُزْنًا لم يحزنه ولد على والدة، وفعل في حقِّها ما لم يفعله أحد، وصلَّى عليها في صحن السَّلام، ومشى بين يدي تابوتها إلى دِجْلة من ناحية التَّاج، ثم حملت في الشَّبارة نهارًا والوزير ناصر بن مهدي مشدود الوسط، وأرباب الدولة في السفن، وصَعِدوا بتابوتها إلى القرية، وأمر الخليفة أن يمشي النَّاس من دِجْلة إلى تُرْبتها المجاورة لمعروف، والمسافة بعيدة، وكان الوزير سمينًا، فكاد يهلك، وقعد في الطَّريق نحوًا من ثلاثين مرة، وعمل لها العزاء شهرًا كاملًا، وأُنشدت المراثي، وختمت الختمات طول الشهر.

قال المصنف : وتكلَّمْتُ في العزاء، وأنشدتُ أبياتًا، وكان قد وقع الثَّلْج يوم وفاتها، وزاد الماء في دِجْلة زيادةً عظيمة، وتكدَّر نهر عيسى والتربة قريبة منه، والأبيات [التي أنشدتها، أوَّلها] (١): [من الكامل]

نادي النَّدى عَبِقٌ بطِيبِ ثنائه … متبسِّمُ الأنوار مِنْ أنوائِهِ

يا ابن الإمام المستضيء ومن سما … كَرَمًا على كَرَمِ الغمام ومائِهِ

[ومنها] (١):

شابت ليوم وفاتها لمم الثَّرى … حُزْنًا وجاد لها الندى ببهائِهِ

فلنهرِ عيسى بعد أُنْسٍ وَحْشةٌ … وبمائِهِ كدرٌ بُعَيدَ صفائِهِ

قامت قيامتُهُ فأضحى زائدًا … ينمي وذلك مُؤذِنٌ ببكائِهِ

وفرَّق الخليفةُ بعد الشَّهر أموالًا كثيرة في الزَّوايا والرُّبُط والمدارس، وخَلَعَ على الأعيان، ومن لم يخلع عليه أعطاه مالًا، وأمر بأن يفرَّق جميع ما خلَّفته من ذهب وفِضَّة وحُلي وجواهر وثياب في جواريها ومماليكها، فقُسِمَ بينهم، وحُمِلَ ما كان في خزائنها من الأشربة والمعاجين والعقاقير إلى المارَسْتان العَضُدي، وكان يساوي ألوفًا، وحَزِنَ عليها أهلُ بغداد حُزْنًا عظيمًا لإحسانها إليهم.


(١) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).