أصحروا قالوا: كيف نخلُصُ إليه ومعه ثلاثون من أصحابه، وكل واحدٍ منهم يحب أن يموتَ قبله، فأرسلوا إليه: اخرُجْ في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا، فإن الكثرة تمنع السماع، فخرجوا في ثلاثة نفر، وخرج في ثلاثة، وكانوا قد اشتملوا على الخناجر المسمومة ليقتلوه، فأرسلت امرأة من اليهود إلى أخيها وكان مسلمًا من الأنصار، فأخبرته بما عزموا عليه، فسبقهم إلى رسول الله ﷺ فساره بذلك، فرجع من الطريق، فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم (١).
وقال الواقدي: وكان السبب في ذلك أن عامر بن الطُّفَيل بعث إلى النبي ﷺ يقول: إنكم قتلتم رجلين لهما منكم جِوارٌ وعَهْد، فابعث إلينا بِدِيَتِهما - يريد اللَّذَيْنِ قتلهما عمرو بن أمية الضَّمْري عند مرجعه من بئر مَعونة - فانطلق رسول الله ﷺ إلى قُباء، ثم مال إلى بني النَّضير يستعين بهم في دِيَة الرجلين - وكان بين بني عامر وبني النَّضير حِلفٌ وعَقْد -، وكان معه أبو بكر وعمر وعلي وأسيد بن الحضير ﵃، فلما استعان رسول الله ﷺ ببني النضير قالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك بما أحببت.
ثم خلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا محمدًا على مثل هذه الحالة - وكان رسول الله ﷺ جالسًا إلى جانب دار من بيوتهم -، فقالوا: مَن يعلو هذا الجدار فيرمي عليه صخرة فيقتله ونستريح منه، فانتدب لذلك عمرو بن جِحَاشٍ، فقال سلَّام بن مِشْكَم: لا تفعلوا فوالله ليُخْبرَنَّ بما قد عزمتم عليه، وأخذ عمرو الصخرة وعلا على الجدار، فأتى رسولَ الله ﷺ الخَبرُ من السماء، فقام من مكانه، وعاد إلى المدينة وأخبر أصحابه بما عزموا عليه، وتهيأ لحربهم، وكانت منازلهم بناحيةِ الغَرْسِ وما والاها، مقبرة بني خَطْمةَ اليوم، وخرج رسول الله ﷺ إليهم يوم السبت في ربيع الأول، وحمل لواءه علي ﵁، واستخلف على المدينة ابنَ أُمِّ مَكتوم وسار في المهاجرين والأنصار، فتحصَّنوا بالحصون، ورَمَوه بالنَّبْل والحجارة، فقاتلهم، وقطع نخلهم وحَرَّق، ثم أرسل إليهم محمَّد بن مسلمة يقول: قد نقضتم العهد، وهممتم بالغدر، فأخرجوا من بلادي ولا تساكنوني أبدًا.
فلما بلّغ محمد الرسالة قالوا: يا محمَّد، ما ظننا أن يجيئنا بمثل هذه الرسالة رجل
(١) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٩٧٣٣)، وأبو داود (٣٠٠٤)، والبيهقي في "الدلائل" ٣/ ١٧٦.