للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الفُرس الفيلَ الأبيض الذي يُعدُّ بألف فيل، فحمل وحملت الفيول، فمَزَّقت الكتائب، فقال سعد: مَن للفيل، فقال عمرو بن معدي كرب والقعقاع: نحن له، وحملا عليه، فوضعا رُمحيهما في عينيه، وضربه المسلمون بالسيوف فقتلوه، وكانت الفِيلة تأنس به، فلما رأته صريعًا نَفرت، فخاضت العَتيق وصفوفَ الفرس، وتعثَّرَت في توابيتها، فوقع مَن كان عليها فهلكوا، ولحقت بالمدائن. وجنّ الليل والقتال يعمل للصباح، فسُمِّيت ليلةَ الهَرير؛ لأن الأصوات انقطعت عن سعد، ولم يَبق إلا هَريرُ الرجال، وشاهدت العجم من العرب ما لم يَروا مثله قَطّ، وفي هذا اليوم الثالث كانت قِصة أبي محجن الثقفي:

لما اشتدَّ القتال -وكان سعد قد حبس أبا مِحْجَن في قصر القادسية وقيَّده- أتى أبو محجن سلمى بنت حفصة، امرأة سعد، فقال لها: يا بنت حفصة، هل لك في خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تُخلِّين عنّي، وتُعيريني البَلْقاء -يعني فرس سعد- وللَّه عليَّ إن سلّمني اللَّه أن أَرجعَ حتى أضعَ رِجلَيَّ في قيدي، وإن أُصِبتُ فما أكثر مَن أُصيب، فقالت: وما أنا وذاك؟ فرجع يَرْسُفُ في قيوده ويقول: [من الطويل]

كفى حَزَنًا أن تَرْدِيَ الخيلُ بالقَنا … وأُتركَ مَشدودًا عليَّ وَثاقِيا

إذا قُمتُ عَنَّاني الحديدُ وغُلّقَتْ … مَصاريعُ دوني قد تُصِمُّ المناديا

وقد كنتُ ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ … فقد تركوني واحدًا لا أخا لِيا

وللَّه عهدٌ لا أَخيسُ بعهده … ليِّن فُرِجَتْ أن لا أزورَ الحوانيا

وسمعتْه سلمى، فقالت: استخرتُ اللَّه، ورضيتُ بعهدك، وأطلقَتْه، فاقتاد الفرس، فأخرجها من باب القصر، وركبها ثم دبَّ عليها، يَلعب برُمحه بين الصَّفَّين، حتى إذا كان بحيال الميمنة، كَبَّر، ثم حمل على الميسرة، ثم رجع إلى القَلْب، فبرز أمام الناس، وحمل على القوم، فتعجَّب الناس منه، وهم لا يعرفونه، ولم يَرَوْه من النهار، وقال بعضهم: هذا من أوائل خيل هاشم أو هاشم نفسه، وقال بعضهم: إن كان الخضر يشهد الحروب فليكن صاحب البلقاء، وقال آخرون: لولا أن الملائكة لا تُباشر الحروب لقلنا إنه ملك، وكان سعد في أعلى القصر، فقال: لولا مَحبَس أبي محجن لقلت: [هذه] شمائلُه، وهذه البلقاء.