للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال: فأتيتُ بابَ جَبَلَة، فرأيتُ عليه من البهجة والخَدَم ما لم أره على باب الملك، فاستأذنتُ عليه، فأذِنَ لي، فلما دخلتُ عليه؛ قامَ فاعتَنَقَني، وعاتبَني في ترك النزول عليه، وإذا به في بَهْوٍ عظيم على سريرِ من ذهب، وحولَه من التماثيل ما لا أُحسنُ أن أصفَه، وإذا هو أصهبُ ذو سِبال (١) وقد ذَرَّ الذهبَ في لحيته، ثم أمرَني أن أجلس على كرسي من ذهب، فأبَيتُ وقلت: إنَّ رسولَ الله نهانا أن نجلس على مثل هذا. ثمَّ سألني عن عُمر وعن المسلمين، وألطفَ في المسألة وألْحَفَ في السؤال، وأظهرَ على وجهه أثر الحزن. قلت: فما يمنعُك من الرجوع إلى الإسلام؟ فقال: هيهات هيهات بعد الذي كان. قلت: نعم، قد ارتدَّ الأشعثُ بنُ قيس وجالدَهم بالسيوف، ومنعَ الزكاة، ثم عاد إلى الإسلام، وزوَّجَه أبو بكر أختَه. فقال: دَعْ عنك هذا، وأومأ إلى وصيف كان على رأسه، فولَّى وحضر (٢)، فما شعرنا [إلا] بالصناديق تُحمل على أعناق الرِّجال، ووُضعَتْ أمامَنا مائدةٌ من ذهب، فقلت: لا آكل عليها، فوُضعَتْ أمامي مائدة من خَلَنْج (٣)، ومالُوا علينا بالحارّ والبارد؛ في صحاف الذهب والفضة، ودارت الخمرُ، فاستعفَيتُ منها، وغسلَ يدَه في طَسْت من ذهب، وأشارَ إلى وصيف آخر، فولَّى، فما كان بأسرعَ من أن أقْبَلَت عَشْرُ جَوَارٍ، فقعدَ خمسٌ عن يمينه وخمس على يساره [على كراسي الذهب]، وأقبلَتْ جارية؛ في يدها اليمنى جامٌ من ذهب فيه طائر أبيض، وفي الجام مسكٌ وعنبر سحيقان، وفي يدها اليسرى جامٌ آخر (٤) لم أرَ مثلَه، [فنقرتِ الطائر] فتقلَّبَ في الجام، ثم انتقل إلى الجام الآخر، ثم طار فسقط على صليب في تاج جَبَلَة، ثم حرَّك جناحيه، فنثر المسكَ على رأس جَبَلَة ولحيتِه، ثم شرب


(١) الأصهب: ذو اللون الأصفر الضارب إلى شيء من الحُمرة والبياض. والسبال: جمع سبَلَة، وهي طرف الشارب من الشعر ومقدَّم اللحية.
(٢) في (ب) و (خ): يحضر، والمثبت من (م).
(٣) في "اللسان": الخَلَنْج شجر -فارسي معرّب- تتخذ من خشبه الأواني. وقيل: هو كل جفنة وصحفة وآنية صُنعت من خشب ذي طرائق موشاة.
(٤) في "الأغاني" ١٥/ ١٦٥: جام فيه ماء ورد.