للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم قام من عنده، فغاب عنه سنة، فسألني عنه فقال: هل عندك من المختار خبر؟ فقلتُ له: ما لي به عهد من يوم كان عندك، وقد قدم قوم من الطائف معتمرين، فسألتُهم عنه فقالوا: قدم علينا الطائف وهو يزعم أنه سيِّد (١) الجبَّارين. قال: قاتلَه الله، لقد انبعث كذَّابًا متكهنًا، إن يُهلكِ اللهُ الجبَّارين فهو أحدُهم.

قال عباس: فواللهِ ما فرغنا من منطقنا حتى عَنَّ لنا المختارُ في طرف المسجد، فقال ابن الزبير: اذكُر غائبًا تره. فأتى الكعبة، فطاف بالبيت، ثم صلَّى ركعتين عند الحِجْر، وجلس، فأطافَ به رجالٌ من معارفه من أهل الطائف، واستبطأ ابنُ الزبير قيامَه [إليه]، فقال لي: ما شأنُه، أترى ما يأتينا؟ فقلت: أنا أعلمُ لك علمه. فقمتُ إليه، فسلَّمتُ عليه، وجلستُ وقلت له: أين كنتَ؟ قال: بالطائف. فقلت: مثلك [يغيبُ] عن مثل ما اجتمعَ عليه أهلُ الشَّرف من قريش والأنصار وثَقِيف وغيرهم من القبائل على بيعة هذا الرجل! فهلَّا أتيتَه فبايعتَه، وأخذتَ بحظِّك من هذا الأمر؟ فقال: أما رأيتَني أتيتُه عامَ أوَّل، فأشرتُ عليه بالرأي، فطوى أمرَه عنّي؟ فأردتُ أن أُرِيَهُ أنِّي مستغنٍ عنه، واللهِ لهو أحوجُ إليَّ منِّي إليه.

قال: فأخبرتُ ابنَ الزبير، فقال: قُلْ له: ميعادُك الليلةَ عند الحِجْر. فاجتمعا، فسلَّم عليه ورحَّب به، وسكتا طويلًا، ثم قال له المختار، لا خير في الدنيا وفي الإكثار من المنطق، ولا في التقصير عن الحاجة، إني جئتُك لأبايعَك على أن لا تقضيَ الأمورَ دوني، وعلى أن أكونَ أوَّلَ من تأذن له، وإذا ظهرتَ استعنتَ [بي] على أفضلِ عملِك. فقال له ابن الزُّبير: أُبايعُك على كتاب الله وسنَّةِ نبيّه . فقال: ما لي في هذا من الحظّ إلا لمن هو أبعدُ الناس عنك (٢). واللهِ لا أُبايعك على هذا أبدًا.

قال عبَّاس: فالتقمتُ أُذن ابنِ الزُّبير وقلت له: اشتر منه دينَه حتى ترى رأيَك. فقال له ابن الزُّبير: فإنَّ لك ما سألتَ. فبايعَه، وأقامَ معه حتى شهدَ الحصار الأول حين قدم الحُصين بن نُمير السَّكوني، وقاتلَ فأبلَى بلاءً حسنًا، وكان في عصابة في نحو ثلاث مئة، وجعل ينادي: أنا المختار. فما كان يتوجَّه إلى طائفة من أهل الشام إلا كشَفَهم.


(١) في "أنساب الأشراف" ٦/ ٤٠، و"تاريخ" الطبري ٥/ ٥٧٤: مبير، بدل: سيد. وما سيرد بين حاصرتين منه.
(٢) عبارة الطبري ٥/ ٥٧٥: ما لي في هذا الأمر من الحظّ ما ليس لأقصى الخلق منك.