للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَأوي إلى رُكنٍ شَديدٍ ولو لَبِثتُ ما لَبِثَ يُوسفُ في السِّجنِ لأَجَبتُ الدَّاعِي" (١).

والجواب: قالوا: ما شهد له الرَّسول بالشكِّ، وإنما مدحه لأنَّ معناه نم ن أحق بالشكِّ منه وما شككنا، وكيف يشكُّ هو، وإنما شك هل يجيبه إلى سؤاله أم لا؟ وكذا باقي الحديث مدح للوط ويوسف.

وقال ابن إسحاق: هذه الواقعة جرت لإبراهيم قبل النبوَّة، وقبل إنزال الصحف، وقبل أن يولد له، وقبل بناء البيت، لأنه مرَّ على بحيرة طبريَّة لما دخل الشَّام فرأى الميتة على جانبها فيكون هذا من جنس قوله: ﴿هَذَا رَبِّي﴾.

وقال محمد بن مقاتل الرَّازي: ما كان شاكًّا في القدرة بدليل قوله: ﴿أَرِنِي﴾ ولو كان شاكًّا لقال: هل تحيي الموتى؟ فكان معنى قوله: ﴿أَرِنِي﴾ أي ما أنا موقن به، ولكن ليطمئنَّ قلبي بزيادة اليقين والحجَّة وحقيقة الخُلَّة وإجابة الدعوة. فقال له الله تعالى: ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيرِ﴾.

واختلفوا في الذي أخذ، والمشهور أنَّه أخذ طاووسًا ونسرًا وغرابًا وحمامًا، رواه مجاهد عن ابن عباس (٢)، وفيه إلثمارة إلى أحوال الدنيا فالطَّاووس من الزينة، والنسر من امتداد الأمل، والغُراب من الغربة، والحمام من النِّياحة، وقيل: وديكًا عوض النسر.

﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيكَ﴾ ومعناه: اجمعهُن وضمَّهنَّ، ومعناه أيضًا: قطّعهنَّ ومزِّقهنَّ، وأنشدوا في اللغز: [من الخفيف]

وغلام رأيتُه صَارَ كَلبًا … ثُمَّ في ساعتينِ صارَ غَزالا (٣)

﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا﴾ أي بعضًا.

فإن قيل: فلم قال: ﴿يَأْتِينَكَ سَعْيًا﴾ [البقرة: ٢٦٠] ولم يقل: طيرانًا، قلنا: لو طارت لتوهم متوهِّم أنها غيرُ تلك، وأدتَّ أرجلَها غيرُ سليمة، فكان أبلغ في الحُجَّة وأبعد من الشُّبهة.


(١) أخرجه أحمد (٨٣٢٩)، والبخاري (٣٣٧٢)، ومسلم (١٥١).
(٢) انظر "زاد السير" ١/ ٣١٤.
(٣) البيت في "العقد الفريد" ٦/ ٤٧٢، قوله: صار كلبًا؛ ضم كلبًا، من صار يصور.