للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم قال: أيها الناس، وخنقته العَبْرَة، رحم الله مَن ذُكِّر فاذَّكر، وزُجِر فانزجر، فإن العظة تجلو عَمى القلوب، وتغسل دَرَن الذُّنوب، ألا وإنكم قد استوطنتم دارَ الغرور، ونسيتم الرحلة إلى القبور، وغرَّتكم الأمانيّ وغرَّكم بالله الغَرور، ألا وإنكم سَفْر وإن أقمتم، ومرتحلون وإن قَطَنْتُم، لا تَتَشكَّى مطاياكم ألمَ الكَلال، ولا يُتعبها دَأَب السَّير، ليل يُدْلِجُ بكم وأنتم نائمون، ونهار يَجدُّ بكم وأنتم غافلون، لكم في كل يوم مُشَيّع لا يستقبل، ومودِّع لا يَؤوب.

أما ترون رحمكم الله إلى ما أنتم فيه متنافسون وعليه متهافتون؛ من كثير يَفنى، وجديد يَبلى، كيف أخذه المخلّفون، وحوسبتم عليه دون المتنعم به (١)، فأصبح كل منهم رهينًا بما كسبت يداه، وما الله بظلام للعبيد.

ثم نزل بعد أن بكى وأبكى الناس، وهو أول من قال في خطبته: ﴿أَفَرَأَيتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ [الشعراء: ٢٠٥ - ٢٠٧]، واقتدى به عمر بن عبد العزيز فكان يقرؤها دائمًا.

ولما نزل اتّخذ عمر بن عبد العزيز وزيرًا ومُشيرًا، ونظر في المظالم فردّها، وفك الأسرى، وأحسن إلى الناس، وهدم كل قاعدة بناها الوليد في الظلم، فأحبه الناس، وعزل الولاة الظالمين، وأقر خالدًا القَسْرِيّ على مكة.

وخالد أول من أدار الصفوف حول الكعبة، ولم تكن مستديرة [بل كانت كصفوف الناس]، ومنع النساء أن يطفن مع الرجال حول الكعبة. قال الهيثم: سمع قائلًا يقول: [من السريع]

وحبَّذا اللاتي يُزاحِمْنَني … عند استلامِ الحجرِ الأسودِ

فقال: والله لا زاحَمْنك بعد اليوم (٢).

ثم عزل خالدًا في آخر السنة وولاها طلحة بن داود الحَضْرَميّ.


(١) في "المنتظم" ٧/ ١٣: كيف أخذ به المخلفون له وحوسبوا عليه دون المتنعم به.
(٢) "أخبار مكة" ٢/ ٢١، و"مروج الذهب" ٥/ ٣٩٩.