للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عاش حارثة إلى أيام الوليد بن عبد الملك ومدحه، وكان يوم صفّين مع معاوية، وهو القائل: [من الكامل]

خَلَتِ الدِّيارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدٍ … ومن العَناء تَفَرُّدي بالسُّودَدِ

وكان رجلَ بني تميم في وقته، وكانت له منزلة عند زياد بن أبيه، وكان قد غلب عليه الشراب، فقيل لزياد: إن هذا ليس من شاكلتك، ولا يَحسُن بك أن يصحبك، فقال زياد: كيف لا أصحب رجلًا ما سألتُه عن شيءٍ إلا وجدتُ عنده علمًا منه، ولا مضى أمامي فاضطرني إلى أن أناديه، ولا مشى خلفي وأحوجني أن ألتفتَ إليه، ولا سايرني فمسّت رُكبته ركبتي، ولا أخذ عليَّ الشمسَ في شتاء قط، ولا الرَّوْحَ في صيف قط. وفي رواية: ولا تقدَّمني فنظرتُ إلى قفاه، ولا تأخَّر عني فلويتُ عُنقي إليه.

فلما مات زياد جفاه عبيد الله بن زياد، فقال له حارثة: يا عُبيد الله، ما هذا الجفاء مع معرفتك بحالي عند أبي المغيرة؟ فقال له عبيد الله بن زياد: إن أبا المغيرة كان قد بَرع بُروعًا لا يلحقه معه عيب، وأنا حَدَث، وإنما أُنسب إلى من [غلب] علي، وأنت يغلب عليك الشراب، ومتى قَرَّبتُك لم آمن على نفسي أن يُظنّ بي ما يتيقن منك، فدع الشراب وكن أول داخل عليّ وآخر خارج، فقال حارثة: أنا لا أدعه لمن يَملك ضَرِّي ونفعي، أفأدعه لك؟ قال عبيد الله: فقد ولَّيتُك رَامَ هُرْمُز وسُرَّق، فإن الشراب بهما كثير، فقال أبو الأسود الدِّيلي: [من الطويل]

أحارِ بنَ بدرٍ قد وَليتَ ولايةً … فكن جُرَذًا فيها تَخونُ وتَسرِقُ

وباهِ تميمًا بالغِنى إن للغِنى … لسانًا به المرءُ الهَيوبَةُ يَنطِقُ

ولا تحقِرَنْ يا صاحِ شيئًا أصبتَهُ … فحظُّك من مُلكِ العراقَين سُرَّقُ

فإني رأيتُ الناسَ إما مكذِّبٌ … يقول بما يَهوى وإما مُصَدِّقُ

يقولون أقوالًا بظَنِّ وشبْهةٍ … فإن قلتَ هاتوا حقِّقوا لم يُحَقِّقوا

ويقال: إن عبيد الله كتب إليه بهذه الأبيات.

قال الهيثم: دخل حارثة يومًا على زياد، فرأى في وجهه أثرًا فقال: ما هذا؟ فقال: ركبتُ الأشقر فجَمَح بي -يعني الشراب- فقال له زياد: أما إنك لو ركبت الأَشهب لما جَمَحَ بك.