للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ورُفع لهم قصرٌ، وإذا بجارية قد خرجت ومعها جَرَّةٌ، فاستقت من الغدير، فسقطت الجَرَّةُ من يدها، فانكسرت، فجلست تبكي، فسألا عن حالها، فقالت: كُنْتُ لرجل من قُريش، فاشتراني رجل من بني عامر بخمسين ألفَ درهم، وهو صاحبُ هذا القصر، فنزلتُ من قلبه ألطفَ منزلة، ثم تزوَّج ابنةَ عمٍّ له، فأساءت إليَّ، وكلَّفتني أن أستقيَ بالجَرَّة كلَّ يوم من هذا الغدير، فشكوتُ إليه، فقال: إنها ابنةُ عمِّي وأنت أَمَةٌ، فلم يَشْكُني، وربَّما أذكر ما كُنْتُ فيه، فوقعت الجَرَّةُ من يدي، فانكسرت.

وكان بين أيديهما عودٌ فأخذَتْه وضربَتْ به وغنَّتْ تقول:

يا بيتَ عاتكةَ الَّذي أتعزَّلُ … حَذَرَ العِدَى وبه الفؤادُ مُوَكَّلُ

إني لَأَمنحُكَ الصُّدودَ وأنَّني … قَسَمًا إليكَ مع الصُّدودِ لَأَمْيَلُ

ولقد نزلتَ من الفؤادِ بمنزلٍ … ما كان غيرُكَ والأمانةِ ينزلُ

ولقد شكوتُ إليكَ بعضَ صَبَابتي … ولَمَا كتمتُ من الصَّبَابةِ أطولُ

هل عيشُنا بكَ في زمانكَ راجعٌ … فلقد تفحَّشَ بعدكَ المتعلِّلُ

أعرضتُ عنكَ وليس ذاك لبَغْضَةٍ … أخشى مقالةَ كاشحٍ لا يعقلُ

قال: ثم بكت بكاءً شديدًا حتَّى أبكتهما. قال: فقلنا لها: لمن هذا الشِّعر؟ قالت للأحوص. قلنا: والصوت؟ قالت: لمَعْبَد. فقلنا: أفتَعْرِفينهما؟ قا لت: لا والله. فقال: أنا الأحوص، وهذا مَعْبَدَ، ونحن قاصدان يزيد بنَ عبد الملك، فأنشأت تقول:

إنْ تراني الغَدَاةَ أسْعَى بِجَرٍّ … أستقي الماءَ نحوَ هذا الغديرِ

فلقد كنتُ في رخاءٍ من العَيـ … ـشِ وفي كلِّ نعمةٍ وسرورِ

ثم قد تُبصِرانِ ما فيه أصْبَحْـ … ـتُ وماذا إليه صارَ مصيري

أَبْلِغا عنيَ الإمامَ وما يَبْـ … ـلُغُ صدقَ الحديث مثلُ الخبيرِ

أنَّني أَضْرَبُ الخلائقِ بالعُو … دِ وأَحْكَاهُمُ بِبَمٍّ وزِيرِ (١)

فلعلَّ الإلَهَ يُنْقِذُ ممَّا … أنا فيه فإنَّني كالأسيرِ

ليتني مِتُّ يومَ فارقْتُ أهلي … وبلادي وزُرْت أهلَ القبورِ


(١) البَمُّ: الوتر الغليظ من أوتار العُود، ويقابله في العُود الحديث العُشَيران، والزِّير: الدقيق من الأوتار وأحدُّها، ويقابل البَمّ في العُود. ينظر "المعجم الوسيط".