للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقال: يا أمير المؤمنين، لما قصدَ عبدُ الله بنُ علي إلينا كنتُ أنا المطلوبَ من بين الجماعة؛ لأني كنتُ وليَّ عهد أبي، فلما قُتل أخذتُ عَشَرةَ آلاف دينار، ودعوتُ عشرةً من غلماني؛ كلُّ واحد على فرس، وشدَدْتُ في وسط كلِّ واحد منهم هِمْيانًا فيه ألفُ دينار، وشدَدْتُ في وسطي جوهرًا له قيمة، وأوقرتُ خمسةَ أبْغُل متاعًا، وهربتُ إلى بلاد النُّوبة، فسرنا فيها أيامًا (١)، فإذا بمدينةٍ خرابٍ، فدخَلْنا دارًا من دُورها، وبعَثْتُ غلامًا أثقُ بعقله، فقلت: اذْهَبْ إلى ملك النُّوبة، وخُذْ لي أمانًا، وابْتَعْ لنا مِيرَةً.

فمضَى وغاب عني زمانًا، ثم أقبل ومعه آخر، فدخلَ، فكَفَّر لي (٢) وقال: الملكُ يقولُ لك: أمحاربٌ أنتَ، أم راغبٌ إليَّ، أم مستجيرٌ بي؟ فقلت: أمَّا محاربٌ؛ فمعاذ الله، وأما راغبٌ؛ فما كنتُ لأبغيَ بديني بدلًا، وأما مستجيرٌ به؛ فلعمري. فقال: أمَّا المِيرَةُ فسنأتيك الساعةَ بها، وأمّا المَلِك فصائر إليك غدًا. ومَضَى، وإذا بالمِيرَة قد أقْبَلَتْ.

فلما كان من الغد؛ فَرَشْتُ الدار بالفُرُش، وصَعِدْتُ على أعلاها أنظرُ من بين شُرْفَتَين أرْقُبُ مجيئه، وإذا برجل قد أقبل؛ عليه بُرْدٌ متَّزرٌ به، وعلى عاتقه بُرْدٌ آخر، وهو حافٍ راجلٌ، ومعه عَشَرةٌ بأيديهم الحِراب؛ ثلاثةٌ يَقْدُمُونَه، وسبعةٌ وراءه، فهانَ عليَّ أمرُه، وسوَّلَتْ لي نفسي قتلَه.

فلما قَرُبَ من الدار؛ إذا بسوادٍ عظيم قد أقبل، فوافَى زهاء عشرة آلاف عِنان، فكانت موافاةُ الخيل إلى الدار وقتَ دخوله، فأحدقُوا بها، ودخلَ، فقال لتَرْجُمانِهِ: أين الرجل؟ فأومأ إليَّ، فأخذَ بيدي فقبَّلَها، ووضَعَها على صدره، وجعلَ يدفعُ ما على الأرض من البُسُط والفُرُش برجله، وقعدَ على الأرض، فظنَنْتُ أنَّ ذلك شيئًا يُجِلُّونَه أن يجلسوا عليه، فقلت لتَرْجُمانه: لِمَ لَمْ يقعدْ على الفُرُش؟ فسأله، فقال: قل له: إني مَلِكٌ، وكلُّ ملكٍ حقّ له أن يتواضعَ لله تعالى؛ إذ رَفَعَه. ثم أطرق مفكّرًا، ثم رفع رأسه وقال للترجمان: قل له: كيف سُلِبْتُم هذا الملك وأنتم أقربُ الناس إلى نبيِّكم؟! فقلتُ: جاء مَنْ كان أقربَ إليه منَّا، فسَلَبَنَا وقَتَلَنَا وطَرَدَنا، وشَرَّدَنا في البلاد، فخرجتُ مستجيرًا بك.


(١) في "تاريخ دمشق" ٤٤/ ٤١٩: ثلاثًا.
(٢) أي: انحنى لي ووضع يده على صدره وطاطأ رأسه تعظيمًا.