إلَّا هذِه الأمةَ، ألَم تَسمَعْ إلى قولِ يعقوبَ حينَ أصابَه ما أصابَه، فإنَّه لم يَسترجِعْ، وإنَّما قال: ﴿يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ [يوسف: ٨٤](١). وقال الفرّاء: معناه يا ربِّ ارحمْ شدةَ أسفي على يوسف.
وقال الحسن البصري: بين خروج يوسف من حجر أبيه وبين أن التقيا ثمانون عامًا لم تجفَّ فيها عينا يعقوب، وما كان على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب. وفي رواية: مات أخو الحسن البصري فأقام سنة لا ينام الليل، فقيل له في ذلك فقال: الحمد لله الَّذي لم يجعل حزن يعقوبَ على ولده عارًا.
فإن قيل: فقوله: ﴿يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ لا يوافق فصبرٌ جميل، قلنا: قد ذكرنا أن معناه يا ربِّ ارحم شدَّة أسفي على يوسف فلا يكون شكاية.
وقال أبو حنيفة بن النُّوبي: لما قال: ﴿يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ نودي: أتشكونا وقد أخذنا منك واحدًا وأبقينا أحد عشر؟
فلما أغلظوا له ﴿قَال إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ لا إليكم، والبث: أشدُّ الحزن، وقيل: إنما سمِّيَ البثُّ أشدَّ الحزن لأن صاحبه لا يصبرُ عليه حتَّى يَبُثَّهُ، أي: يظهره.
وحكى الثعلبي قال: دخل على يعقوب جار له فقال له: ما لي أراكَ قد انهشمت وفنيت، ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك؟ فقال: همُّ يوسفَ فعل بي هكذا، فأوحى الله إليه، يا يعقوب، أتشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا ربِّ خطيئةٌ أخطأتها فاغفرها لي، قال: قد غفرتها لك، وكان بعد ذلك إذا سئل قال: ﴿قَال إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾.
وفي رواية: أن يعقوب كبر حتَّى سقط حاجباه على عينيه فكان يرفعهما بخرقة، فقال له رجل: ما الَّذي بلغ بك ما أرى؟ فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله
(١) "عرائس المجالس" ١٣٧، وتفسير الثعلبي ٥/ ٢٤٧، وأخرجه الطبري ٣/ ٢٢٤، والبيهقي في شعب الإيمان (٩٢٤٢) من قول سعيد بن جبير، قال البيهقي: رفعه بعض الضعفاء إلى ابن عباس ثم منه إلى النبي ﷺ.