للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وذكر أبو عبد الله بن خميس في كتاب "مناقب الأبرار" في ترجمة ذي النون المصري عن صاحبه سالم قال: بينما أنا مع ذي النون في جبل لبنان إذ قال لي: مكانك يا سالم حتَّى أعود إليك، فغاب عنِّي في الجبل ثلاثةَ أيَّام، فلمَّا كان بعد ثلاثٍ رجعَ متغيِّر اللون، ذاهب العقل، فقلت له بعدما رجعَتْ نفسُه إليه: يا أبا الفيض، أعارضَك سبع؟ فقال: دعني من تخويف السباع، إنِّي غبت في هذا الجبل ثلاثةَ أيام، كلَّما هاجت النفس أطعمتُها من نبات الأرض، وسقيتُها من العيون، ثم إنِّي دخلتُ كهفًا من الكهوف فرأيتُ رجلًا أبيضَ الرأس واللحية، أشعث أغبر نحيفًا، كأنَّما نشر من قبر، وهو قائمٌ يصلِّي، فلمَّا سلَّم من صلاته سلَّمت عليه، فردَّ السلام، ثمَّ عاد إلى صلاته، فما زال يصلي إلى العصر، ثم استندَ إلى حجر هناك مقابل المحراب يسبِّح، فقلت له: رحمك الله، ادع لي دعوة، فقال: آنسك الله بقربه، ثم سكت فقلت: زدني، فقال: من آنسَه الله بقربه أعطاه أربع خصال، عزًّا في [غير] عشيرة (١)، وعلمًا من غير طلب، وغنًى من غير مال، وأُنسًا من غير جماعة، ثم شهقَ شهقةً وغشيَ عليه، فلم يفق إلَّا بعد ثلاثة أيام حتَّى توهمتُ أنَّه قد مات، فلمَّا كان بعد ثلاث قام فتوضَّأْ من عين هناك ثم قال: كم فاتني من الفرائض؟ قلت: صلاة ثلاثة أيَّام فقضاهن، ثم استند إلى الصخرة وقال:

إنَّ ذكرَ الحبيب هيَّج شوقي … إنَّ حبَّ الحبيب أذهلَ عقلي

ثم بكى وقال: قد استوحشتُ من ملاقاة المخلوقين، وأنست بربِّ العالمين انصرف عني بسلام، فقلت: وقفتُ عليك ثلاثة أيام رجاء الزيادة منك، فقال: حب مولاك، ولا ترد بحبِّه بديلًا، فالمحبون لله هم تيجان العباد، وأمحلام الزهاد، وهم أصفياء الله وأحباؤه، ثمَّ صرخ صرخة وسقطَ ميتًا، فبقيتُ متحيِّرًا فيه، وإذا بجماعةٍ من العُبَّادِ منحدرين من الجبل، فتولَّوا أمره ودفنوه، فسألتُهم عنه فقالوا: هذا شيبان المصاب، قلت: فهل تعرفونَ من كلامه شيئًا، قالوا: كلمةً واحدة، كان إذا ضجرَ يقول: إذا بك لم أجن، يا حبيبي فبمن؟! فقلت: عميَ والله عليكم.

قلت: وبسفحِ لبنان بالبقاع قريةٌ يقال لها: قبر إلياس، قريبٌ منها قبرٌ يقال: إنَّه قبرُ شيبان الراعي. والله أعلم.


(١) ما بين حاصرتين من مناقب الأبرار ١/ ٩٩، وتاريخ دمشق ٧/ ٤٦ (مخطوط).