إلى بُرْقة، فأقام بها خمسَ سنين، ثم خرج يريد الأندلس، فنزل ببيرة المراكب، وكانت البلادُ مفتوحة، فيها يمانيةٌ ومُضَرية يقتتلون على العصبية، وكان معه مولاه بدر، فدخل بينهم يتحسَّس الأخبار، فقال للمضرية: لو وجدتم رجلًا من أهل بيتِ الخلافة أَكنتم تقومون معه وتبايعونه؟ قالوا: وكيف لنا بذلك؟! فاستحلفهم بدر، فلمَّا استوثق منهم قال: هذا عبدُ الرحمن بن معاويةَ من بيت الخلافة، فأتَوا إليه وبايعوه، فأقام واليًا عليهم ثلاثًا وثلاثين سنةً وأربعة أشهر، وهو أوَّل ملوكِ بني أميةَ بالمغرب.
وكان يوسفُ الفِهريُّ يدعو إلى نفسه بالمغرب، فلمَّا دخل عبدُ الرحمن لم يكترثْ له يوسف، ونزل عبدُ الرحمن الأندلس، فأطاعه أهلُها وقالوا: هذا من بيت الخلافة، وفي زمان عمِّه الوليدِ فُتحت الأندلس، واستفحل أمرُه، فقاتله يوسفُ الفهري، وكان أهلُ يوسفَ ومقرُّه بقرطبة، فدخل الفهريُّ طُلَيطلة واستنصر بالفرنج وبملكها، فأَنجدوه على عبد الرحمن، وخرج بالجيوش، فالتقوا على قرطبةَ واقتتلوا، فقال عبدُ الرحمن: مَن أتاني برأس الفهريِّ فله كذا وكذا من المال، فأتاه رجلٌ من أصحابه برأسه، فدخل قرطبةَ وبها عيالُ يوسفَ فلم يَعرِضْ لهم.
وكان المنصورُ يثني على عبد الرحمن، قال يومًا لأصحابه: مَن صقرُ قريشٍ الذي قهر الأعداءَ وساس الملكَ وسكَّن الزلازل؟ فقالوا: أنت، فقال: ما قلتم شيئًا، ولكن ذاك الذي قطع الفيافيَ والقفار، والجزائرَ والبحار، وأَوغل في بلاد المغرب، وقد قُتل قومُه وزال ملكُهم، فدخل بلدًا أعجميًّا مُفرَدًا، فمصَّر الأمصار وجنَّد الأجناد، ودوَّن الدواوين، ولم يزل يضرب العدنانيةَ بالقحطانية، والقحطانيةَ بالعدنانية، والمضريةَ باليمانية، حتى أقام مُلكًا داثرًا بعد انقطاعه، بحسن تدبيرِه وشدَّة شكيمته، ذاك عبدُ الرحمن بنُ معاوية.
وسأل مالكُ بن أنسٍ رجلًا من أهل الأندلسِ عن سيرة عبدِ الرحمن، فقال: يلبس الصوفَ ويأكل خبزَ الشعير، ويجاهد في سبيل الله، وعدَّد مناقبه، فقال مالك: ليت أنَّ اللهَ زيَّن حَرَمنا بمثله. وبلغ عبدَ الرحمن، فسُرَّ بقوله، وجمع أهلَ الأندلس على مذهب مالك، وكانوا قبل ذلك على مذهب الأَوزاعي، فهذا سببُ اجتماعِ المغاربة على