قميص ولا مِقْنَعة، فحملت القَبجَة ودخلت الدارَ تعدو، فقال عبدُ الله لغلامه: اِذهب إلى هذا البابِ واسأل عن الجارية ولمَ أخذت القبجة، فجاء الغلامُ فطرق الباب، فخرجت الجارية، فسألها، فسكتت، فألحَّ عليها، وجاء ابنُ المبارك فسألها، فقالت: أنا وأخت لي في هذه الدارِ ليس في منزلنا إلَّا إزار واحد إذا لبستُ بَقِيَتْ أختي عُريانة، فهو كسوتُنا وفراشنا، فقال: ليس لكم قيِّم؟ قالت: لا والله، وكان أبونا رجلًا موسِرًا، فظُلمنا وغُصبنا على أموالنا، وبقينا بحالٍ تحل لنا الميتة، فرقَّ لها عبد الله، وقال لغلامه: اِلحق فردَّ الأثقال، وقال لوكيله: ما معك من النَّفقة؟ قال: ألفُ دينار؟ قال: اعزلْ منها عشرين دينارًا تكفينا إلى مروَ وصُبَّ الباقيَ في إزار هذه الجارية، ففعل الغلام، وعاد إلى مروَ، فقيل له: ما الذي ردَّك؟ فقال: استقبلَنا ما هو أفضلُ من الحجّ.
وقد رُويت هذه الحكايةُ على وجه آخرَ، فقال عليُّ بن الحسن بن شَقيق: توجَّه ابن المبارك من مَرْوَ إلى الكوفة للحجّ، فرجع بعد ذلك عن قُرب، فسألتُه عن سبب رجوعِه، فقال: خرجتُ إلى موقف الكوفةِ وفي كمِّي خمسُ مئة دينار لأشتريَ بها جِمالًا، فرأيت امرأةً تسارق النَّاسَ من بعيد، وتتقدَّم إلى مزبلةٍ هناك عليها بطَّة ميِّتة تريد أن تأخذَها، فإذا نظر إليها أحدٌ أمسكت، فغفل النَّاس عنها، فأخَذَتها وأنا أُسارقها بالنظر، فتبعتُها وقلت لها: أَتأكلين الميتة؟ فقالت: يَا عبدَ الله، لا تسألْني (١).
فوقع كلامُها في قلبي، قال: فأَلححت عليها، فقالت: قد أحوجتَني إلى هتك سِتري وكشف سرِّي، أنا امرأةٌ شريفة، مات زوجي وترك أربعَ بناتٍ يتامى وليس يسترنا إلَّا الحيطان، ولنا أربعةُ أيام ما أكلنا شيئًا، فخرجت أتسبَّب لهنَّ في شيءٍ فلم أجد غيرَ هذه البطَّة، فأخذتها لأُصلحَها وأحملَها إلى بناتي فيأكلْنها. قال: فقلتُ: ويحَكَ يَا ابن المبارك، وأين أَنْتَ عن هذه وبناتِها، فقلت: افتحي حِجْرَك، ففتحته، فصببتُ الدنانير فيه، ونزع اللهُ من قلبي شهوةَ الحجّ في تلك السنة، وعدتُ إلى بلدي وأقمت حتَّى عاد النَّاسُ من الحجّ، فخرجت أتلقَّاهم، فجعلت كلَّ مَن أقول له: قَبِلَ الله حجَّك، يقول: وأنت قبل الله حجَّك، وأكثر عليَّ النَّاس، فبتُ متفكِّرًا، فرأيت رسولَ الله ﷺ في المنام
(١) في (خ): ألا تسألني. ولا يستقيم بها الكلام، وانظر الخبر في ترتيب المدارك ١/ ٣٠٤.