للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلتُ: ويحك ما هذا؟ قال: بُليت بعشق امرأةٍ من الروم، ففعلَتْ فيَّ ما ترى، فقلت: ويحك عُدْ إلى الإِسلام، فقال: بَعدَ ما وُلد لي أولادٌ منها، قلت: فالقرآنُ الذي كنت تقرؤه؟ قال: نسيتُهُ كلَّه غيرَ آية واحدة، وهي قولُه تعالى: ﴿رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ [الحجر: ٢] ثم انحرف، فطعنتُهُ فقتلته.

وقال: جاء أوانُ الحجّ (١)، فقلت: أُجاهد في هذا العام، وقَويَ عزمي على الجهاد، فنمتُ، فرأيتُ في المنامِ قائلًا يقول: كم تُلِحّ؟ إن غزوتَ العامَ أُسرت، وإن أُسرتَ تنصَّرت.

وقال مُحَمَّد بن عيسى: كان ابنُ المبارك كثيرَ الاختلاف إلى طَرَسُوس، وكان ينزل الرَّقة في خان، وكان يختلف إليه شابّ يقوم بحوائجه ويسمع عليه الحديث، فقدم الرقَّة مرَّةً فلم يره، فسأل عنه، فقيل: هو محبوسٌ بدَين، قال: وكم دَينُه؟ قالوا: عشرة آلافِ درهم، فدعا بصاحب الدَّين ليلًا ودفع إليه المال، وسأله ألا يُعلم الفتى.

وسافر ابنُ المبارك، وأَخرج الرجلُ الفتى مَن الحبس ولم يعلم مَن قضى دينه، وقيل للفتى: كان ابنُ المبارك ها هنا والبارحةَ سافر، فخرج خلفه فلحقه على مراحل، فقال له: يا فتى، ما الذي أَبطأ بك؟ فقال: كنتُ محبوسًا بدين فجاء رجلٌ فقضاه عنِّي، قال: مَن الرَّجل؟ قال: لا أعلم، فقال ابنُ المبارك: الحمد الله. ولم يَعلم الفتى أنَّ ابن المبارك قضاه، ولم يُخبر صاحبُ الدَّين أحدًا بشيءٍ حتَّى مات ابنُ المبارك.

وكان إذا أقام ببغدادَ يتصدَّق كلَّ يوم بدينار.

وقال القاسم بن محمَّد (٢): قلت في نفسي: بأيِّ شيءٍ فُضّل هذا الرجلُ علينا حتَّى اشتهر بين النَّاس هذه الشُّهرة؟! إنْ كنا لَنصلِّي كما يصلي، ونصوم كما يصوم، ونحجُّ كما يحجّ، ونغزو كما يغزو. قال: فدخلتُ عليه في بعض الليالي وإذا به في الظّلمة، فخرجت وأتيتُه بسراج، وإذا وجهُه ولحيتهُ قد امتلآ من البكاء والدُّموع، فلعله ذكر ظُلمةَ القبر، فقلت في نفسي: بهذه الخشيةِ فضِّل علينا.


(١) في نسخة في هامش (خ): حجي.
(٢) في (خ): محمَّد بن القاسم، والمثبت من صفة الصفوة ٤/ ١٤٥، وهو الصواب إن شاء الله، فقد ذكره المزي في تهذيب الكمال (٣٥٠٨) في الرواة عن ابن المبارك، وأنه مروزي.