للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أطيبَ ريحًا، فشبعتُ ورَويت، وأَقمت أيَّامًا لا أشتهي الطعامَ والشراب. ثم لم أره حتَّى دخلنا مكَّة، فرأيتُه ليلة إلى جنب قُبَّة الشرابِ نصفَ الليل يصلِّي بخشوع وأنينٍ وبكاء، فلم يزل كذلك حتَّى ذهب الليلُ وطلع الفجر، فجلس في مصلَّاه يسبِّح الله، ثم قام فصلَّى الغَداة، وطاف بالبيت أُسبوعًا (١) وخرج، فتبعتُه، وإذا حاشيةٌ ومَوَالٍ، وهو على خلاف ما رأيتُه في الطَّريق، ودار به النَّاسُ من حوله يسلِّمون عليه، فقلتُ لبعض مَن رأيته تقرَّب منه: مَن هذا الفتى؟ قال: موسى بنُ جعفرِ بن محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن علي ، فقلت: قد عجبتُ أن تكونَ هذه العجائبُ إلَّا لمثل هذا السيِّد.

وقال عبدُ الرَّحمن بنُ صالح الأَزْدي: حجَّ هارون، فأتى قبرَ النبيِّ زائرًا له وحوله قريشٌ وأفياءُ القبائلِ وموسى بنُ جعفر، فلمَّا انتهى إلى القبر، قال هارون: السلامُ عليك يا رسولَ اللهِ يا ابنَ العمّ. افتخارًا على مَن حوله، فدنا موسى من القبرِ وقال: السلامُ عليك يا أَبَة، فتغيَّر وجهُ هارونَ وقال له: هذا هو الفخرُ يا أبا الحسنِ حقًّا. ثم اعتمر هارونُ في رمضانَ سنة تسعٍ وسبعين ومئة، وحمل موسى معه إلى بغداد، فحبسه بها، فتوفِّي في هذه السَّنة (٢).

وقال الزَّمخشري: كان هارونُ يقول لموسى: خذ فَدَكًا. وهو يمتنع عليه، فلمَّا كثَّر عليه قال: ما آخُذها إلَّا بحدودها، قال: وما حدودُها؟ قال: الحدُّ الأوَّل من فَدَك إلى عَدَن، فتغيَّر وجهُ هارون، قال: والحدُّ الثَّاني؟ قال: سَمَرْقَنْد، فاربدَّ وجهُ هارون، قال: والحدُّ الثالث؟ قال: إِفريقية، فاسودَّ وجهُ هارون، قال: والحدُّ الرابع؟ قال: سِيفُ البحرِ ممَّا يلي الخَزَرَ وإرمينيةَ والشام، قال هارون: فتحوَّلْ إلى مجلسي فلم يبقَ لنا شيء، فقال موسى: قد أَعلمتك بحدودها، فحينئذٍ أخذه وحبسه.

ولمَّا طال حبسُه كتب إلى هارون: إنَّه لن ينقضيَ عني يومٌ من البلاء إلَّا انقضى عنك معه يومٌ من الرَّخاء، حتى نُفضيَ جميعًا إلى يومٍ ليس له انقضاءٌ يخسر فيه المبطلون (٣).


(١) أي: سبعًا.
(٢) المنتظم ٩/ ٨٨.
(٣) في (خ): المطلوب، والمثبت من تاريخ بغداد ١٥/ ١٩، والمنتظم ٩/ ٨٨.