ولا يكلِّمني حتَّى أذَّن الظُّهر، فقال: يا عبدَ الله، قد أذَّن المؤذِّن، فقلت: شأنك. فخرج فصلَّى وعاد، فعمل عملًا جيِّدًا إلى العصر، فلما أذَّن المؤذِّن، خرج فصلَّى ثم رجع، فعمل إلى آخر النَّهار، فوزنتُ له أُجرتَه، فانصرف.
فلمَّا كان بعدَ أيَّام، احتجنا إلى عمل، فقالت لي زوجتي: اُطلب لنا ذاك الصَّانعَ الشابّ؛ فإنَّه قد نصحنا في عملنا. فجئتُ إلى السُّوق فلم أرَه، فسألتُ عنه، فقالوا: تسأل عن ذاك المصفرِّ المشؤومِ الذي لا نراه إلَّا من سبتٍ إلى سبت، لا يجلس إلَّا وحده في آخِر النَّاس! فانصرفت. فلمَّا كان يومُ السبت، أتيتُ السوقَ فصادفته، فقلت له: تعمل معي؟ فقال: قد عرفتَ الأُجرة والشَّرط، فقلت: استَخِر اللهَ تعالى، فقام فعمل على النَّحو الذي كان يعمل، فلمَّا وزنتُ له الأجرة زِدتُه، فأبى أن يأخذَ الزِّيادة، فأَلحَحْت عليه، فضَجِر وتركني ومضى. فغمَّني ذلك، فاتَّبعته وداريته حتَّى أخذ أُجرتَه فقط.
فلمَّا كان بعد مدَّة، احتجنا إلى صانع، فأتيت السوقَ يومَ السبت، فلم أصادفْه، فسألتُ عنه، فقيل لي: هو عَليل. وقال لي مَن يَخبُرُ أمرَه: إنَّما كان يجيءُ إلى السُّوق من سبتٍ إلى سبت، يعمل بدرهمٍ ودانق، يتقوَّت كلَّ يوم بدانق، وقد مرض، فسألتُ عن منزله، فأَتيته وهو في بيت عجوز، فقلت لها: الشابُّ الرُّوزجاري؟ قالت: هو عليلٌ منذ أيَّام. فدخلتُ عليه، فوجدتُه لِمَا به وتحت رأسه لَبِنة، فسلَّمت عليه وقلت: لكَ حاجة؟ قال: نحم إنْ قبلت، قلت: أَقبل إن شاءَ الله، فقال: إذا أنا متُّ، فبعْ هذا المَرَّ، واغسل جبَّتي هذه الصوفَ وهذا المئزرَ وكفِّنِّي بهما، وافتُقْ جيبَ الجبَّة فإنَّ فيها خاتَمًا، وانظر يوم يركب هارونُ الخليفة، فقِف له في موضعٍ يراك، فكلِّمه وأَرِه الخاتم؛ فإنَّه سيدعو بك، فسلِّم إليه الخاتم، ولا يكونُ هذا إلَّا بعد دفني، قلت: نعم.
فلمَّا مات: فعلتُ به ما أمرني، ثم نظرتُ اليومَ الذي يركب فيه الخليفة، فجلست له على الطريق، فلمَّا مرَّ ناديتُه: يا أميرَ المؤمنين، لك عندي وديعة، ولوَّحت بالخاتم، فأُخذت وحُملت إلى داره، ثم دعاني ونحَّى جميعَ مَن كان عنده وقال: مَن أنت؟ قلت: عبدُ الله بن الفَرج، قال: مِن أين لك هذا الخاتَم؟ فحدَّثته قصَّة الشاب، فجعل يبكي حتَّى رحمتُه، فلمَّا أَنِس قلت: يا أميرَ المؤمنين، مَن هو منك؟ قال: ابني، قلت: