قالوا: فأمر فرعون بذبح كل مولود يولد في بني إسرائيل، ووكل الشُّرَط مع القوابل كلَّما وُلدَ مولودٌ ذبحوه، وأسرع الموتُ في مشيخة بني إسرائيل، فقال رؤساء القبط لفرعون: قد أمرت بذبح الأبناء، وقد أسرع الموت في المشايخ، فإن دمت على هذا لم يبق لنا من يخدمنا. فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة، فولد هارون قبل موسى في السنة التي لم يذبح فيها، وولد موسى في السنة التي يذبح فيها، بعد أن ذبح من بني إسرائيل سبعين ألفًا، وقيل: تسعين ألفًا. فلما ولد موسى دخل الطلب إلى بيت أمه، فألقته في التنور، فلما خرجوا قامت إلى التنور وهو يُسْجَر، فرأته سالمًا، فألهمها الله أن صنعت تابوتًا من البرديِّ - وقيل: إنما صنعه رجل مؤمن من آل فرعون - فأوحى الله إلى يوخابذ، أمِّ موسى، أن اقذفيه في التابوت ثم اقذفيه في اليمِّ - يعني: في النيل - ففعلت ذلك بعد أن أرضعته.
فإن قيل: فلم أُمِرَتْ بإلقائه في الماء، قال أبو حنيفة ابن النُّوبي: ليختفي على الكهان أمره، لأن المولود إذا وقع في الماء خفي نجمه. وقيل أيضًا: قيل لأمِّه: اطرحيه في التلف لأنجيه بالتلف.
فسار الماء بالتابوت، وكانت قد زَفَّتَت (١) التابوت، ولفَّت موسى في القطن، فساقه القدر إلى نهرٍ يأخذ من النيل إلى دار فرعون، ووافق جلوسَ فرعون في ذلك الوقت على البركة، ومعه آسية بنت مزاحم، فدخل التابوتُ إلى البركة، فقال فرعون للخدم والجواري: أخرجوه، فأخرجوه، ففتح التابوت فرآه، فقال: عبراني، كيف أخطأه الذبح وأمرُ السنة؟ فقالت آسية: هذا أكبر من سنة، فدعه عسى أن يكون ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا﴾ [القصص: ٩] وكان لا يولد لفرعون إلا البنات، وأحبَّه فرعون حبًا شديدًا بحيث لم يصبر عنه لحظة. قال ابن عباس: فذلك قوله تعالى: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ [طه: ٣٩]. قال قتادة: كان في عينيه ملاحة ما رآه أحدٌ إلا وأحبه.
فإن قيل: فأي مناسبة بين الماء والنار؟ ولم كان مبدأ موسى ومنتهاه معهما؟ فالجواب من وجوه:
أحدها: لأن الماء مغرق، فكأن فيه إشارة إلى هلاك عدوِّه ونجاته. وأما النار فمن
(١) أي طَلته بالزّفت لئلا يتسرب إليه الماء، وعند الثعلبي: قَيَّرت، أي طلته بالقار.