للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

خرجتُ يومًا إلى مقابر [باب] (١) خراسانَ، فإذا رجلٌ قد دخل المقابرَ وهو مُقَنَّع، فجعل كلما رأى قبرًا مُنْخَسِفًا وقف عليه، فتأمَّلته، فإذا به سعدون، كلَّما وقف على قبر بكى، وكان يكون في كوخٍ في مقابر عبدِ الله بنِ مالك، فقلت له: يا سعدون، ما تصنع ها هنا؟! فقال: يا يحيي، هل لك أن تجلسَ فتبكيَ على هذه الأبدانِ قبل أن تبلَى فلا يبكي عليها باك.

ثم قال: يا يحيى البكاءُ على القدومِ على الله أَولى من البكاءِ عليها، ثم قال: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ [التكوير: ١٠]. ثم صاح صيحةً عظيمة وقال: واغوثاهُ مما يقابلني في الصُّحف. قال يحيي: فغُشي عليّ، وأَفقتُ وهو جالسٌ يمسح وجهي بكمه ويقول: يا يحيي، مَن أشرفُ منك لو مُتَّ في هذا المقام؟

[وروى ابنُ باكويه الشيرازيُّ عن ذي النون المصريِّ قال:] (٢) خرج الناسُ يَستسقون بالبصرة، فكنت ممَّن خرج، فبينا أنا مع الناس، إذا بيدَين قد قبضتا على رِجلي، فقلت: مَن أنت؟ خلّ عنِّي، فقال: أنا سعدون، أين تريد يا أبا الفَيض؟ قلت: أريد المُصَلَّى أَدعو الله، فقال: بقلب سماوي أو بقلب خاوٍ، قلت: بقلبٍ سماوي، قال: اُنظر ما تقول، لا تُبهْرِجْ؛ فإنَّ النَّاقدَ بَصير. ثم قال: تدعَّوَ وأؤمِّن على دعائك، أو أدعو وتؤمِّن على دعائي؟ قلت: بل تدعو وأؤمِّن على دعائك، فصفَّ قدمَيه ثم قال: إلهي بحقِّ البارحة إلا أَمطرتَنا.

قال ذو النُّون: فواللهِ لقد رأيت الغيومَ قد ارتفعت عن اليمين والشّمال حتى التقت، وجاء المطرُ كأفواه العَزَالي (٣)، فقلت له: بحقِّ مَعبودِك، أيُّ شيء كان بينك وبين محبوبِك البارحة؟ قال: لا تدخل بيني وبين قُرَّة عيني، فقلت: لا بدَّ أن تُخبرَني، فأنشأ يقول: [من الوافر]

أَنِستُ به فلا أَبغي سواه … مخافةَ أن أَضِلَّ فلا أَراهُ

فحسبُك حَسْرةً وضنىً وسُقمًا … بطَرْدِك عن مجالسِ أولياهُ


(١) ما بين حاصرتين من (ب).
(٢) في (خ): وقال ذي النون المصري، والمثبت من (ب)، وأخبار سعدون في صفة الصفوة ٢/ ٥١٢ - ٥١٦.
(٣) جمع عزلاء، وهو مصب الماء من الراوية ونحوها. القاموس المحيط (عزل).