للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأقدمه هارونُ إلى بغدادَ ليولِّيه القضاء، فامتنع وعاد إلى الكوفة، فأَقام بها حتى توفِّي.

وقال فلان (١): سألت وكيعًا عن مَقدَمه هو وابنُ إدريس وحَفْصُ بن غياث على الرشيد، فقال: ما سألني عن هذا أحدٌ قبلك، قَدِمنا على هارونَ فأَقعدنا بين السَّريرين، وكان أوَّل مَن دعا به أنا، فقال: يا وكيع، قلت: لبَّيك يا أميرَ المؤمنين، قال: إن أهل بلدِك طلبوا مني قاضيًا وَسمَّوك لي فيمن سمَّوه، وقد رأيت أن أشركَك في أمانتي وصالحِ ما أَدخل فيه من أمر هذه الأمَّة، فخذ عهدَك وامض، فقلت: أنا شيخٌ كبير، وإِحدى عينَيَّ ذاهبة والأخرى ضعيفة، فقال هارون: اللهم غُفرًا، خذ عهدَك أيها الرجلُ وامضى، فقلت: واللهِ لئن كنتُ صادقًا إنه لينبغي أن تقبلَ مني، ولئن كنتُ كاذبًا فما ينبغي لك أن تولِّي القضاءَ كاذبًا، فقال: اخرج، فخرجت ودخل ابنُ إدريس، وكان قد وُسِمَ له منه وَسْم، أي: خُشونة، فسمعنا صوتَ رُكبتَيه على الأرض حين بَرَك، وما سمعناه يسلّم إلّا سلامًا خَفيفًا، فقال له هارون: أتدري لمَ دعوتك؟ قال: لا، قال: إنَّ أهل بلدِك طلبوا مني قاضيًا، فقال ابنُ إدريس: لا أَصلح للقضاء، فنكت هارونُ بإصبعه وقال: وددت أنِّي لم أكن رأيتك، فقال له ابنُ إدريس: وأنا واللهِ وددت أنِّي لم أكن رأيتك، فقام وخرج، ودخل حفصُ بن غياث، فقال له كما قال لنا، فقبل عهدَه وخرج، وأتانا خادمٌ ومعه ثلاثةُ أكياسٍ في كلِّ كيس خمسةُ آلافِ درهم، فقال: أميرُ المؤمنين يُقرئكم السلام ويقول: قد لزمتكم مؤنةٌ في شخوصكم، فاستعينوا بهذه على سفركم.

قال وكيع: فقلت له: أَقرِئ أميرَ المؤمنين السلامَ وقل له: قد وَقَعَتْ مني بحيث يحبُّ أمير المؤمنين، وأنا عنها مُسْتَغنٍ، وفي رعيَّة أميرِ المؤمنين مَن هو أحوجُ مني إليها، فإنْ رأى أميرُ المؤمنين أن يصرفَها إلى مَن أحبّ. وأمَّا ابن إدريس، فصاح به: مُرَّ من ها هنا. وأمَّا حفص، فقبلها. وخرجت الرقعةُ لابن إدريسَ من بيننا: عافانا اللهُ وإياك، سألناك أن تدخل في أعمالنا فلم تفعل، ووصلناك من أموالنا فلم تقبل، فإذا


(١) في تاريخ بغداد ١١/ ٧٠، والمنتظم ٩/ ٣٠٣، وصفة الصفوة ٣/ ١٦٧: شيخ على باب بعض المحدثين.