للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ووهب الفضلُ لطبَّاخه مئةَ ألف درهم، فعوتب في ذلك، فقال: إنَّ هذا صَحبني ولم يكن لي شيء، واجتهد في خدمتي ونُصحي، وقد قال الشاعر: [من البسيط]

إنَّ الكرامَ إذا ما أَيسروا ذَكَروا … مَن كان يَعتادهم في المنزل الخَشِنِ (١)

ووهب لبعض الأدباءِ عشرة آلاف دينار، فبكى الأديب، فقال: أَتبكي استقلالًا لها؟ فقال: لا والله، ولكن أبكي كيف تواري الأرضُ مثلَك.

وقال الجَهْم: أضَقْتُ إضاقةً شديدة، فأصبحتُ ذات يوم وليس عندي ما آكل، لا أنا ولا غلامي ولا دابَّتي، فقلت للغلام: أَسرِج لي الدابَّة، فأَسرجها وركبت، فلمَّا صرت بسوق يحيى، إذا بالفضل في مَوكبٍ عظيم، فسرت معه، فبينا نحن كذلك، إذا بغلامٍ على رأسه طَبَق، فوقف على بابٍ وصاح: يا فلانة، باسم جارية، فوقف الفضلُ طويلًا يرتاح إلى صوت الغلام، ثم سار وقال: تدري ما سببُ وقفتي؟ قلت: لا، قال: كانت لأُختي جارية، وكنت أحبها حبًّا شديدًا، وأستحيي من أختي أن أطلبَها منها، فلمَّا كان في هذا اليوم، زيَّنتْها أختي، وألبستها أحسنَ الثياب والحُلِي، وبَعَثَتْ بها إلي، فكنتُ معها في ساعة ما مرَّ من عمري ألذُّ منها، فجاءني رسولُ أمير المؤمنين يطلبني، فقطع عليَّ لذَّتي، فركبت، ولمَّا صرت إلى هذا المكان، دعا هذا الغلامُ باسم تلك الجارية، فارتحتُ لندائه. فقلتُ: أصابك ما أصاب أخا بني عامرٍ (٢) حيث يقول: [من الطويل]

وداعٍ دعا إذ نحن بالخَيف من مِنى … فهيَّج أشجانَ الفؤادِ وما يدري

دعا باسم ليلى غيرَها فكأنما … أَطار بليلى طائرًا كان في صدري

فقال: اكتب لي هذين البيتَين، ولم يكن معي ورق، فعدلتُ إلى بعض البقَّالين، فرهنتُ خاتَمي عنده على ورقةٍ وكتبت له البيتين ولحقتُه بهما، فقال: اِرجع إلى منزلك، فرجعت، فقال لي غلاميِ: هاتِ الخاتمَ حتى أَرهَنَه على ما نأكل، فقلت: قد رهنته. فما أمسيتُ حتى بعث إليَّ الفضلُ بثلاثين ألفَ درهمٍ جائزةً، وعشرةِ آلاف سلفًا من رزقٍ رُزقته في كلّ شهر أَجراه لي.


(١) نسب البيت لدعبل وأبي تمام وإبراهيم الصولي. انظر ديوان دعبل ص ١٩٢، والشعر والشعراء ٢/ ٨٥٢، والعقد الفريد ٢/ ١٦٨، وبهجة المجالس ٢/ ٧١٦، ومعجم الأدباء ١/ ١٩٢.
(٢) هو مجنون ليلى، والبيتان في ديوانه ص ١٦٣، وهما أيضًا في ديوان نصيب بن رباح ص ٩٤.