الرشيد إلى الأمين، فوافاه بالخُلْد قصرِ أبي جعفر، فأخبره، فتحوَّل إلى قصر أبي جعفرٍ بالمدينة، وأمر الناس يومَ الجمعة بالحضور إلى جامع المنصور، وصعد المنبرَ فنعى هارونَ، وخطب فقال:
أيُّها الناس، إنَّ المَنون تراصد ذوي الأنفاسِ حتمًا من الله تعالى، لا يُدفع حلولُها، ولا يُنكر نزولُها، فاسترجِعوا قلوبَكم عن الجَزَع على الماضي إلى النَّهج الباقي، تُعطَوا أجورَ الصابرين وجزاءَ الشاكرين.
ووعد الناسَ خيرًا وقال: إنَما ولِّينا لنُفَرِّجَ عن المَكْروبين، ونزيلَ هموم المَهمومين، ونُحسنَ إلى المحسنين، ونتجاوزَ عن المسيئين.
وبايعه الخاصَّة والعامَّة، وأعطى الجندَ رزق سنتين، واستوزر الفضلَ بن الربيع، وجعل العباسَ بن الفضلِ على حجابته. وأول مَن أنشده أبو نُواسٍ فقال (١): [من المنسرح]
جَرَت جوارٍ بالسَّعد والنَّحس … فالناسُ في وَحْشةٍ وفي أُنْسِ
العينُ تبكي والسِّنُّ ضاحكةٌ … فنحن في مَأتَم وفي عُرْس
يُضحكها القائمُ الأمين ويُبـ … كيها وفاةُ الرشيدِ في أَمس
بدرانِ بدرٌ أَضحى ببغدادَ في الـ … خُلْد وبدرٌ بطوسَ في الرَّمْسِ
وولَّى إسماعيلَ بن صَبيحٍ على ديوان الرَّسائل والتوقيعات، وولَّى عيسى بنَ علي بنِ ماهانَ على شرطته، وقيل: عبدُ الله بن خازم، وأوَّل ما بدأ به الأمينُ أنَّه أطلق عبدَ الملك بنَ صالح بن علي من الحبس، وكان حَبَسه هارونُ على ما تقدَّم.
ذِكر بدءِ الخلاف بين الأمينِ والمأمون:
كان الأمينُ شديدَ البغضِ للمأمون، وقد ذكرنا إِنفاذَه بكرَ بن المعتمرِ وما جرى له، فلمَّا كانت الليلةُ التي مات فيها هارون، قال للفضل بنِ الربيع: قرِّرْ بكرَ بن المعتمر، فإن أقرَّ وإلَّا فاضرب عنقه، فقرَّره الفضل، فلم يُقرَّ بشيء، وغُشي على هارون،
(١) كذا قال الطبري ٨/ ٣٦٤، وأحمد بن يوسف فيما أخرجه عنه ابن الجوزي في المنتظم ٩/ ٢١٩، والأبيات لأبي الشيص الخزاعي كما في الشعر والشعراء ٢/ ٨٤٣، وطبقات ابن المعتز ص ٧٥، والعقد الفريد ٣/ ٢٩٧.