للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكان ذلك أوَّلَ ما بدا من الأمينِ من الغدر بأخيه المأمون.

ولمَّا رحلت العساكر عن طوس قال قائل: [من السريع]

منازلُ العسكرِ مَعْمورةٌ … والمنزلُ الأعظم مهجورُ

خليفةُ الله بدار البِلَى … تَسفي على أجداثه المُور (١)

أَقبلت العِيرُ تُباهي بهِ … وانصرفت تَندبه العِير

ولمَّا بلغ المأمونَ رحيلُ العسكرِ إلى بغدادَ بالأموال أُسقِط في يده، وجمع خواصَّه وقوَّاد أبيه: يحيى بنَ معاذ، وشبيبَ بن حُمَيدِ بن قَحْطَبة، والعلاءَ مولى هارون وكان على حِجابته، والعباس بن المسيَّب بنِ زهير وهو على شُرطته، وأيوبَ بن [أبي] (٢) سمير، وهو على كتابته، وغيرَهم، وفيهم ذو الرِّياستين، وكان عظيمَ القدرِ عنده، فاستشارهم، فأَشاروا (٣) عليه أن يتجهَّزَ بنفسه خلفهم في ألفَي فارس جريدةٍ (٤) يردُّهم، فقال له ذو الرِّياستين: إن فعلتَ ما أشاروا عليك، جعلوك طُعمةً وهديةً لمحمَّد، قال: فما الرأي؟ قال: أن تكتب إليهم كتابًا وتبعثَ رسولًا يذكِّرهم البَيعة، ويسألهم الوفاءَ بالعهد، ويحذِّرهم الحِنْثَ وما يَلزمهم من ذلك في الدِّين والدنيا، فكتب إليهم كتابًا مع سَهْل بنِ صاعد ونَوفلٍ الخادم، وبعث معهما جماعةً من أهل الرأيِ والعقل، فلحقوهم على ثلاث مراحلَ من نَيسابور.

قال سهلُ بن صاعد: فأوصلتُ كتابَ المأمون إلى الفضل بنِ الربيع، فقرأه وقال: إنَّما أنا واحد من القوم. قال سهل: وشدَّ عليَّ عبدُ الرحمن بنُ جَبَلَةَ الأنباريُّ بالرمح فأمرَّه على جنبي، ثم قال: قل لصاحبك: واللهِ لو كنت حاضرًا لوضعتُ هذا الرمحَ في فيك، هذا جوابي. ونال من المأمون، فرجعوا إليه وأَخبروه، فقال له ذو الرِّياستين: اِحمدْ ربَّك، فقد أراحك اللهُ من أَعدائك، والرأيُ عندي ما أذكره لك، فافهمه واعملْ به، وأنا زعيمٌ لك بالخلافة، قال: وما هو؟ قال: قرأتَ القرآن، وسمعتَ الحديث،


(١) المور: الغبار المتردد، والتراب تثيره الريح. القاموس المحيط (مور). والأبيات في مختصر تاريخ دمشق ٢٧/ ٣٨، والبداية والنهاية ٤٧/ ١٤، إلا أنها في رثاء الرشيد.
(٢) زيادة من تاريخ الطبري وابن الأثير ٦/ ٢٢٣.
(٣) في (خ): فاستشاروا.
(٤) الجريدة: خيل لا رجَّالة فيها. القاموس المحيط (جرد).