للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال: وما حدَّثتُه بحديثٍ عن النبي إلَّا وقال: صلى اللهُ على سيدي محمَّد .

وحدثته يومًا بحديث أبي هريرةَ، وأنَّ موسى لقي آدمَ فقال له موسى: أنت الذي أخرجتَنا من الجنة، وعنده بعضُ عمومته، فقال: أين التقيا؟ فأمر هارونُ بقتله، ثم حبسه، [قال:] فدخلتُ عليه الحبسَ ولُمْته، فقال: واللهِ ما سمعتُه من أحد، وإنَّما هو شيءٌ جرى على لساني، قال: فأخبرت هارون، فقال: خفت أن يكونَ بعضُ الزنادقةِ ألقى إليه هذا الكلام، وإلا فأنا أعلم أنَّ القرشيَّ لا يتَزَنْدَق، وأطلقه.

[قلت: وأيُّ إشكالٍ في هذا السؤال، أليس قد ثبت أنَّ الله تعالى أخرج ذرية آدمَ مثل الذَّرِّ بأرض نَعمانَ وقال لهم: "ألست بربكم" قالوا: بلى. وأخذ ميثاقَ الأنبياءِ على تصديق نبيِّنا وقد كان موسى في الجملة، فقد عاتبه موسى على اعتبار (١)، ويحتمل أنَّ روحَ موسى وآدمَ اجتمعا بعد المماتِ فعاتبه موسى، وليس في سؤال عمِّ هارونَ ما يُنكَر عليه، وإنَما عظَم القصة سدًّا لهذا الباب على مَن لم يفهم الجواب.]

وقال [أبو معاويةَ الضرير:] (٢) قال لي هارونُ يومًا: ما أجلُّ المراتب؟ فقلت: ما أنت فيه، قال: أجلُّ مني رجلٌ في حلقةٍ يقول: حدَّثنا فلانٌ عن فلان عن النبي .

[وكان هارونُ كثيرَ الخوفِ من الله والبكاء] وقال ابنُ المبارك: عشق هارونُ جارية، فراودها عن نفسها، فقالت: إنَّ أباك ألمَّ بي، فتركها، وشُغف بها حتى قال: [من الوافر]

أرى ماءً وبي عَطَشٌ شديدٌ … ولكن لا سبيلَ إلى الورودِ (٣)

وأخبر أبا يوسفَ القاضيَ بشدَّة شغفه بها، فقال: أَوكلَّما قالت جاريةٌ كذا تصدِّق!

فقال هارون: ما فوق الخلافةِ مرتبة.

ثم قال ابنُ المبارك: ما أدري مم أعجب، من عِفَّة الجارية ورغبتِها عن الخلافة، أو من امتناع هارونَ عنها مع شدَّة الشغفِ والعشق والقدرةِ والشَّباب والملك، أو من جرأة أبي يوسفَ حيث أمره بالهجوم عليها؟!


(١) حديث المعاتبة المذكور أخرجه البخاري (٣٤٠٩)، ومسلم (٢٦٥٢).
(٢) في مختصر تاريخ دمشق ٢٧/ ١٣ أن القائل يحيى بن أكثم. وما بين حاصرتين من (ب).
(٣) هي ثلاثة أبيات في مختصر تاريخ دمشق ٢٧/ ٢٩. وانظر تاريخ بغداد ١٦/ ١٧.