فركب ومضى إلى ابنه، فأخذ الغلامَ منه وسلَّمه إلى أهله، فلم يلبثوا إلَّا يسيرًا حتى أقبل إسحاق بن موسى العباسي من اليمن فنزل المُشَاش، فاجتمع الطالبيُّون إلى محمَّد بن جعفر وقالوا: الرأي أن نُخَنْدقَ على أعلى مكةَ خندقًا ونقاتل، وتُبرزَ لنا شخصك ليراك الناس، ففعل.
[ثم إنَّ إسحاق كره القتال والحرب وخرج](١) يريد العراق، فلقيه وَرْقاءُ بن جَميل في أصحابه واليًا على مكَّة، فقالوا له: ارجع معنا ونحن نكفيك القتال، فرجع، فنزلوا المُشاش، واجتمع إلى محمَّد بنِ جعفر غَوْغاءُ مكةَ وسُودانُ أهلِ المياه والأعراب، فعبَّأهم ببئر مَيمون، ووقعت بينهم جراحات وقُتل جماعة، ورجع إسحاقُ وورقاءُ إلى منزلهم، ثم عاودهم اليومَ الثاني فقاتلوهم، فهزموا أهل مكَّة، ودخل محمَّد بنُ جعفرٍ مكة، وأرسل إليهم محمَّد قاضيَ مكةَ يطلب لهم الأمانَ حتى يخرجوا من مكَةَ ويذهبوا حيث شاؤوا، فأجابوهم إلى ذلك، وخرجوا من مكةَ بعد ثلاثٍ وتفَّرقوا.
فأما محمَّد بنُ جعفر، فأخذ ناحية جُدَّة، ثم خرج يريد الجُحفة، فلحقه محمَّد بنِ حكيم بنِ مروانَ من موالي بني العباس، وكان الطالبيُّون قد انتهبوا دارَه بمكة وعذَّبوه عذابًا شديدًا، وكان معه جماعةٌ من عبيد بني العباس، فلحق محمَّدًا بعُسْفان، فأخذ ما كان خرج به من مكَّةَ، وجرَّده حتى أبقاه في السراويل، وهمَّ بقتله، ثم مَنَّ عليه وأعطاه ثوبًا وعمامةً ودُرَيهمات، فخرج حتى أتى بلادَ جُهَينةَ على الساحل، فلم يزل مُقيمًا بها وهو يجمع الجموعَ ويُجَيِّش الجيوش.
وكان بالمدينة هارونُ بن المسيِّب عاملُ المأمون، فجمع له وخرج إليه، فكانت بينهم وقعاتٌ عند الشجرةِ وغيرها، فقَتل من أصحاب محمَّد خلقًا كثيرًا، وفقئت عينُ محمَّد بنُشَّابة، وأقام ينتظر مَن كان وعده من الأعراب أن يوافيَه بالموسم، فلم يوافهِ أحد، فطلب الأمانَ من ورقاءَ ورجاءَ ابنِ عمِّ الفضل، فأمَّناه، ودخل مكةَ لعشرٍ بقين من ذي الحِجَّة، فأُتي بالمنبر فنُصب بين الرُّكن والمقامِ في المكان الذي بويع فيه، وصَعِد المِنْبَر، وخلع نفسَه، وبايع المأمون، وكان من جملة كلامه:
(١) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري ٨/ ٥٣٨، وانظر المنتظم ١٠/ ٨٤، وتاريخ الإِسلام ٤/ ١٠٦٠.