للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يحيى بن محمدٍ العَنْبَريِّ قال:، قال [الواقدي:] كنت حنَّاطًا (١) بالمدينة وفي يدي مئةُ ألفِ درهم للناس أُضارب بها، فتَلِفت، فشخصت إلى العراق وقصدتُ يحيى بنَ خالد، فجلست في دِهليزه وأَنِست بالخدم والحجَّاب، وسألتهم أن يوصلوني إليه، فقالوا: إذا قدِّم إليه الطعامُ لم يُحجَب عنه أحد، ونحن نُدخلك إليه ذلك الوقت، فلما حضر الطعام، أَدخلوني وأَجلسوني على المائدة، فسألني: مَن أنت؟ وما قصَّتك؟ فأَخبرته بخبري.

فلما رُفعت المائدة، دنوتُ منه لأقبِّلَ رأسه، فاشمأزَّ مني، وخرجتُ، فلحقني خادمٌ ومعه كيسٌ فيه ألفُ دينارٍ وقال لي: الوزير يُقرئك السلامَ ويقول لك: استعنْ بهذا على أمرك وعُدْ إلينا في غد، فأخذته وعدتُ إليه في غد، فحضرتُ على مائدته، فسألني كما سألني في اليوم الأوَّل، فأجبته.

فلما رُفع الطعام، قمت لأقبِّلَ رأسه، فاشمأزَّ مني [فخرجت] (٢) ولحقني خادمٌ بكيسٍ فيه ألفُ دينار، وقال لي كما قال بالأمس، وحضرتُ في اليوم الثالثِ وأردت تقبيلَ رأسه، فاشمأزَّ مني، ولحقني الخادمُ بكيسٍ فيه ألفُ دينار، فلمَّا كان في اليوم الرابع، لحقني الخادمُ بكيسٍ فيه ألفُ دينار وتركني أقبِّلُ رأسَه، فقال: إنَّما منعتُك ذلك في أوَّل الأمر لأنَّه لم يكن وَصَلَ إليك من معروفنا ما يوجب هذا، والآن قد لحقك بعضُ النفع [مني] أَعطِه يا غلامُ الدارَ الفلانيةَ وافرُشها بالفرش الفلاني [يا غلام] أَعطِه مئتَي ألفِ درهم، يقضي دَينَه بمئة ألف ويُصلح شأنَه بمئة ألف، ثم قال: الزمني وكن في داري، فقلت: أعزَّ اللهُ الوزير، لو أذنتَ لي بالشُّخوص إلى المدينة لأقضيَ الناسَ أموالهم ثم أعودَ إلى حضرتك كان ذلك أرفقَ بي، فأذن لي وأمر بتجهيزي، فشَخَصت إلى المدينة، فقضيت دَيني ثم رجعت إليه، فلم أزل في ناحيته.

[قلت: قولُ يحيى لمَّا قبَّل رأسَه: الآن قد وصلك بعضُ النفع، ليس من أخلاق الكرام؛ لما فيه من الذُّلِّ والصَّغار، وقد كان العظماءُ يمنعون من تقبيل أيديهم لئلا يكونَ ذلك مقابلة. وهذه روايةُ الخطيب.


(١) أي: بائعًا للحنطة.
(٢) ما بين حاصرتين من (ب).