للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

آلاف درهم، وكنت أقضي حوائج الناسِ عنده، فحصل لي مالٌ عظيم، وكان كلَّما حصل لي شيءٌ أنفذته إلى البصرة أوّلًا فأوَّلًا، فيشترى لي به الدُّورُ والضِّياع والبساتين، وأقمت مع محمدٍ حتَّى تعلَّم القرآنَ وتفقَّه في الدّين، وروى الشعرَ وفهم العربيةَ واللغة، وبرع في النَّحو وأيامِ النَّاس، فاستدعاه هارونُ الرشيد، فاستنطقه، فأُعجب به وقال. يَا عبدَ الملك، أريد أن يصلِّيَ بالنَّاس، فاختر له خطبة، ففعلت، وخطب وصلَّى بالنَّاس الجُمُعة، ونُثرت عليه الدراهمُ والدنانير، ووصلني هارونُ وزبيدةُ بأموالٍ لا تُحصى ولا تُعدّ.

قال: فاستأذنته في عَودي إلى البصرة ومشارفةِ أهلي ومالي وأصحابي، فأذن لي، وكتب لي كتابًا إلى العامل بها بوصيَّته، فلمَّا دخلت البصرة، لم يبقَ بهما إلَّا مَن تلقاني. فلما كان في اليومِ الثالث، جاء البقَّال وعليه ثوبٌ وسخ وعِمامةٌ وسخة، فقال لي: كيف أَنْتَ يَا عبدَ الملك؟ وخاطبني بما يخاطبني به الرشيد، فقلت: بخير، وقد قبلتُ وصيَّتك، وجمعت ما عندي من الكتب وجعلته في دَنّ، وصببتُ عليه من الماء عشرةَ أرطال (١)، فخرج كما ترى، فقال: جيدًا عملت، ثم أَحسنتُ عليه وجعلته وكيلي، ثم استقدمه (٢) هارونُ فأعطاه مئةَ أَلْفٍ أخرى.

واجتمع الأصمعيُّ بهارونَ الرشيد] قال الأصمعيّ: أمر الرشيدُ بحملي إليه، فأدخلني عليه الفضلُ بن الربيعِ وهو منفرد، فأمرني بالجلوس، فجلست، فقال: يَا عبدَ الملك، وجَّهت إليك بسبب جاريتَين قد أخذتا طَرفًا من الأدب، فأحببت أن تتعرَّف ما عندهما، فأحضر جاريتين لم أرَ مثلهما حُسنًا وجمالًا، فقلت لإحداهما: ما عندكِ من العلم، قالت: ما أمر اللهُ به في كتابه، ثم ما تنظر النَّاسُ فيه من الأشعار والآدابِ والأخبار، فسألتها عن حروفٍ من القرآن، فأجابتني كأنَّها تقرأ الجواب من كتاب، وسألتُها عن النحو والعَروضِ فما قصَّرت، فقلت لها: هل قرضتِ الشِّعر؟ قالت: نعم، ثم أنشدت تقول: [من الخفيف]

يَا غياثَ البلادِ في كلِّ مَحْلٍ … ما يريد العبادُ إلَّا رضاكا


(١) في الفرج بعد الشدة: للعشرة أربعة.
(٢) قوله: ثم استقدمه … ، ليس في الفرج بعد الشدة.