للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقلت لها: يا جارية، أَعيدي عليَّ شِعرَك، فقالت: أسمعتَ ذلك مني؟ فأعدتُ (١) شِعرها عن آخره، فقامت تنفض ثيابَها وتقول: إنْ كان حقًّا في عبادك أصمعيٌّ فهو هذا.

ومررتُ بأعرابيَّة عند قبرٍ وهي تقول: [من الطويل]

فإن تسألاني فيمَ حُزْني فإنَّني … رهينةُ هذا القبر يا فتيانِ

عزيز عليَّ أن أراه كما ترى … عزيزٌ عليه بعضُ ما تريان

وإني لأستحييه والتُّرب بيننا … كما كنتُ أستحييه وهو يراني (٢)

وقال الأصمعيّ: وقع طاعونٌ بالبصرة، فخرج رجلٌ من أهلها على حمارٍ ومعه أهلُه وولدُه، وخلفه عبدٌ حبشيٌّ يمشي ويسوق الحمارَ ويرتجز:

لن يُسبقَ اللهُ على حمارِ … ولا على ذي مَيعةٍ مُطَارِ (٣)

قد يصبح اللهُ أمامَ الساري

فلما سمع الرجل قولَ العبد، رجع بأهله وولدِه.

وركب الأصمعيُّ يومًا حمارًا دميمًا، فقيل له: بعد مراكبِ الخلفاءِ تركب هذا! فقال متمثِّلًا: [من الطويل]

ولمّا أبتْ إلَّا انصرافًا (٤) بودِّها (٥) … وتكديرِها الشِّربَ الذي كان صافيا (٦)

شَرِبنا برَنْقٍ (٧) من هواها مكدَّرٍ … وليس يَعاف الرَّنْقَ من كان صاديا

ثم قال: ركوبُ هذا مع سلامة ديني أحبُّ إليَّ من ركوب تلك وتذهب آخرتي.


(١) في (خ): فأعادت. وهو خطأ، والتصويب من المنتظم.
(٢) البيت الأول والثالث في العقد الفريد ٣/ ٢٧٨، ومصارع العشاق ٢/ ٨٨.
(٣) ماع الفرس: جرى. وفرس مُطار وطيار: حديد الفؤاد ماض. القاموس المحيط (ميع) (طير). والأبيات في البيان والتبيين ٣/ ٢٧٨، وعيون الأخبار ١/ ١٤٤، ومحاضرات الأدباء ٤/ ٣٢٤، وزهر الآداب ٢/ ٩٩٥.
(٤) في تاريخ دمشق ٤٣/ ٢١٧، والوفيات ٣/ ١٧٤: انصرامًا. وفي تاريخ بغداد ١٢/ ١٦٦، ونزهة الألباء ص ١٢٢: طراقًا.
(٥) في نزهة الألباء: بِورْدِها.
(٦) في (خ): عافيا، والمثبت من المصادر.
(٧) الرَّنْق: الماء الكَدِر.