الأرض، فقال له موسى:"أقتلت نفسًا زاكية"- بألف (١) - وهي التي لم تذنب قط. ومن قرأ ﴿زَكِيَّةً﴾ أراد التي أذنبت ثم تابت، وقيل هما لغتان.
فإن قيل: ففي الحديث الذي رويتم أنَّ الغلام الذي قتله الخَضِر طبع كافرًا فكيف قال زاكية؟ قلنا: الزاكية في البدن، أي: سالمة مِنَ العيوب، والزَّكيَّةُ في الدين، ذكره المبرِّد. وقال الحسن: إنما شقَّ ذلك على موسى لأن الخضر أضجعَ الغلام وذبحه. ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ أي: بغير قتل نفس ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾ أي: منكرًا، والنُّكْرُ أشدُّ من قوله إمرًا ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٥) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (٧٦) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا﴾ قال ابن عباس: هي أَنْطَاكِيَة، وقال ابن سيرين: الأُبُلَّة، وقيل: باجَرْوان من أعمال واسِط.
قلت: والعجب من هذا، والواقعة كانت بالمغرِب بإفريقِيَّة، وقيل: بطنْجَة، وقيل: عند نهر الزيت وهو أقصى المغرب، فما الذي أتى بها إلى أَنْطَاكِيَة والأبُلَّة؟ وهو من أقصى الدنيا وأبعد الأرض عن السماء، فيحتمل أنها قرية من قرى المغرب.
﴿فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا﴾ أي: يقروهم، لأنهم كانوا أهل قرية لئامًا ﴿فَوَجَدَا فِيهَا﴾ أي: في القرية ﴿جِدَارًا﴾ أي: حائطًا، قال وهب: كان طوله في السماء مائة ذراع ﴿يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ أي: يسقط وينهدم، ومنه انقضاض الكواكب وهو سقوطها وزوالها عن أماكنها. وقال ابن جبير: مسح الجدار بيده فاستقام فقال له موسى: ﴿لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ وقيل: ضيافة يعني على إقامته وإصلاحه ﴿قَالَ﴾ الخضر ﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ﴾ أي: سوف أخبرك ﴿بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ ثم شرع يشرح له فصلًا فصلًا:
﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ﴾ قال وهب: كانت لعشرة إخوة، خمسة زَمْنَى وخمسة يعملون في البحر ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ ووراء بمعنى أمام كقوله: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ﴾ [المؤمنون: ١٠٠] وقيل: معنى وراءهم خلفهم، رجعوا عليه في طريقهم، وقيل: معناه يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا.
(١) وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو، انظر النشر ٢/ ٣١٣.