ورجعت إلى سرَّ من رأى، فاستَقبلَتْني أمُّه قاسم بالبكاء وقالت: مات ابني؟ فحلفتُ لها أنَّه في عافية، ثمَّ عدت إلى طَرَسوس، فأخبرته بما رأيتُ من أمِّه وقلت له: إن كنتَ أردتَ بمقامك بهذه البلاد وجهَ الله وتدع أمَّك كذلك فقد أخطأت، فوعدني بالخروج من طَرَسوس.
ثمَّ خرجنا ونحن زُهاء خمس مئة رجل -والخليفةُ يومئذ المستعين- وخرج معنا خادم الخليفة ومعه ثيابٌ مثمنة عمل الرُّوم على بغل، فسرنا إلى الرُّها، فقيل لنا: إنَّ جماعة من قُطَّاع الطَّريق على انتظاركم، والمصلحةُ دخولُكم حصنَ الرُّها حتَّى يتفرَّقوا، فقال أحمد: لا يراني الله فارًّا وقد خرجتُ على نيَّة الجهاد، وخرجنا فالتقينا، فأوقع بالقوم، فقتل منهم جماعةً وهرب الباقون، فزاد في أعين النَّاس جَلالةً ومَهابة.
ووصل الخادم إلى المستعين بالثِّياب، فلمَّا رآها استحسنها، فقال له الخادم: لولا ابن طولون ما سَلِمتْ ولا سلمْنا، وحكى له القصَّة، فبعث إليه مع الخادم بألفِ دينار سرًّا، وقال له: عرِّفْه أنَّني أحبُّه، ولولا خوفي عليه لقَرَّبتُه.
وكان ابن طولون إذا دخل على المستعين مع الأتراك في الخدمة أومأ إليه الخليفة بالسَّلام سرًّا، واستدام الإحسان إليه ووهب له جارية اسمها ميَّاس، فولدت له ابنه خُمارويه في المحرَّم سنة خمسين ومئتين.
ولما تنكَّر الأتراك للمستعين وخلعوه، أحْدروه إلى واسِط وقالوا: مَن تختار أن يكون في صُحبتك؟ فقال: أحمد بن طولون، فبعثوه معه، فأحسن صُحبته، ثمَّ كتب الأتراك إلى أحمد: أن اقتُل المستعين ونولِّيك واسطًا، فكتب إليهم: لا رآني الله قتلتُ خليفةً بايعتُ له أبدًا.
فبعثوا سعيدًا الحاجب فقتل المستعين بالقاطول، فوارى أحمدُ جثَّته، ولما رجع أحمد [بن طولون] إلى سُرَّ من رأى بعد ما قَتل [سعيدٌ الحاجب] المستعينَ أقام بها، فزاد محلُّه عند الأتراك، فولَّوْه مصر نيابةً عن أميرها سنة أربع وخمسين [ومئتين]، فقال حين دخلها: غايةُ ما وُعدت به في قتل المستعين ولايةُ واسط، فتركتُ ذلك لله تعالى، فعوَّضني الله ولايةَ مصر والشَّام، فلمَّا قتل والي مصر في أيَّام المهتدي صار مستقلًّا به