ونزل أبو العبَّاس في مَضرب خُمارويه ولا يرى أنَّه بقي له طالب، وكان سعدٌ الأعسر مع خُمارويه قد كَمَّن كَمينًا لأبي العبَّاس [فخرج عليهم وقد وضعوا السِّلاح، فحمل عليهم فانهزموا وتفرَّقوا، ومضى أبو العبَّاس] إلى طَرَسوس في نَفَرٍ يسير، وذهب جميع ما كان معه وما حواه من عسكر خُمارويه، انتهب الجميعَ سعدٌ الأعسر، وأقام أبو العباس بطَرَسوس.
وفيها وثب يوسف بن أبي السَّاج على الحُجَّاج، فقاتلوه وأسروه، وقدموا به بغداد مقيَّدًا قد أُشهِر على جمل.
قال أبو بكر الأدمي القاري (١): [لما أُدخل ابن أبي السَّاج سامراء مقيَّدًا مشهورًا أخرجني] مؤنس معه فتلقيناه [من فراسخ -وقيل: إنَّما أدخل به بغداد- قال الأدمي:] فقرأتُ بين يديه وهو مقيَّدٌ مشهور ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ [هود: ١٠٢] وأَتبعتُها بكلِّ ما جاء في القرآن من هذا الجنس، وابنُ أبي السَّاج عليه البُرنس وهو يبكي، فلمَّا كان بعد مدَّة شفع فيه مؤنس، فرضي الخليفة عنه، وأَطلقه إلى داره، فقال لي مؤنس: قد طلبك ابن أبي السَّاج منِّي، فامضِ إلى داره، فقلت: خَفِ الله فيَّ، لعلَّه وجد في نفسه من ذلك اليوم، فقال: لا بدَّ، فقلتُ: اللهَ اللهَ فيَّ أيُّها الأستاذ، فقال: لا بدَّ أن تمضي إليه.
فدخلت عليه، فقرَّبني ورفع مجلسي وقال: أحبُّ أن تقرأ [تلك] الآيات التي قرأتَها بين يدي يوم كذا وكذا، فقلت: كان الحالُ يقتضي ذلك، أمَّا اليوم فلا، فقال: لا بدَّ ولا بأس عليك، فإنَّني انتفعتُ بها.
فشرعتُ، فقرأتها وهو يبكي ويَنْتَحب إلى أن قطعتها، فأخرج من تحت مُصلَّاه دنانيرَ كثيرة، فَحَشَا بها فمي، ثمَّ أعطاني ألفي درهم، فأخذتُها وخرجت، وإذا ببَغْلةٍ فارهة بسَرْجها ولجامها، فركبتُها، وأصحبني ثيابًا، وقال: إذا شئت فعُدْ إلينا، ولا تنقطع عنَّا ما دمنا مُقيمين، فكنتُ آتيه في كلِّ أسبوع أقرأ عنده، فيعطيني في كلِّ شهر مئة دينار، إلى أن خرج من دار السَّلام.
(١) في (ب): وذكر له أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي عن أبيه في كتاب "الفرج بعد الشدة" حكاية عن أبي بكر الأدمي قال .. والمثبت من (خ) و (ف)، ولم نقف على الخبر في كتاب التنوخي، ونقله عنه ابن الجوزي في "المنتظم" ١٢/ ٢٤٤.